11 سبتمبر 2025
تسجيللم يجتمع على أي قوة عبر التاريخ المعروف، من الأعداء والمتربصين، ما اجتمع على غزة في محنتها المزمنة،،، المتفاقمة. بعد نحو 15 عاما من الحصار والخذلان والخيانة من القريب والبعيد، تأتي حرب الإبادة المستمرة منذ 3 أشهر. ورغم ذلك تبقى غزة صامدة. وهذا أمر لا تستطيع أن تفسره أي نظرية سياسة أو اجتماعية ولا أي فكر بشري. فلا شيء يفسر صمود شعب لحصار قاس مرير كل تلك السنين، تعرض خلالها لكل أنواع التدمير والمعاناة والقهر، وبعدها يزأر أسوده ليفاجِئوا العالم كله، القريب الخائن قبل العدو الفاجر، ويشنوا حرب تحرير ليس لها نظير. ووسط صدمة المجرمين من الأعداء والأقرباء لم يكتف العدو بنفسه فاستعان بكل قوى الشر العالمية تقريبا. ولم يكتف الأقرباء الخونة بالدهشة فخذلوا إخوتهم، ثم حيروا العالم بمساعدتهم لعدوهم (عبّرَ عن ذلك مسؤولون يابانيون قالوا إنهم كانوا على الحياد، لكن مؤازرة دول «عربية» لإسرائيل جعلتهم يؤيدونها). وتلك ظلمات بعضها فوق بعض، تؤكد أن ما يسمى حضارة اليوم جاهلية أسوأ كثيرا من جاهلية الأمس. وقد ورد في ذلك أقوال ينسبها البعض للرسول الكريم ﷺ، وهي تصدُق في معناها وإن لم تصح نسبتها، ومنها «بُعثت بين جاهليتين، لآخرهما شر من أولاهما». كيف؟ عندما تآمر الكفار لقتل النبي الكريم ﷺ، انتظروا خروجه للصلاة. لم يقتحموا عليه لأن «آداب» تلك الجاهلية لم تكن تبيح هتك ستر الحريم في بيوتهن. وعندما أشار أحدهم باقتحام البيت، نهره أبو جهل رأس الكفر مستنكرا: «أتريد أن تقول العرب أنّا تسورنا الحيطان وهتكنا ستر بنات محمد»؟ وبعد أن بدأ الرسول ﷺ هجرته نحو المدينة، وقف أبو جهل موقفا مشابها عندما ذهب يسأل عن أبي بكر فلطم ابنته أسماء، ثم ظل يرجوها ألا تخبر أحداً عن فعلته، قائلا: «أكتميها عليّ، خبئيها عني، لا يقول الناس إني ضربت امرأة». وعندما حاصر الكفار المسلمين في الشعب بادر لرفعه عنهم مشرك جاهلي هو زهير بن أمية قائلا «يا أهل مكة أنأكل الطعام، ونلبس الثياب، وبنو هاشم هلكى،... والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة». وقصة أبي سفيان في ترفعه عن الكذب عندما سأله هرقل عن الرسول ﷺ معروفة. ومثلها قصة عتبة بن ربيعة لما سمع القرآن من الرسول ﷺ ثم عاد يقول لقومه «إعصبوها برأسي وخلوا بين محمد ودعوته». وأيضا قصة الوليد ابن المغيرة الذي شهد بالحق لعظمة القرآن وقال قولته المشهورة، «إن لقوله لحلاوة وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق، وإنه ليعلو ولا يعلى عليه. وما هو بقول بشر». واليوم نجد أناسا من بني جلدتنا لا يفقهون في العربية كلمتين ولا يجيدون قراءة آيتين، ويشككون في الدين والقرآن الحكيم، ثم يبالغون في الغي والإغراض إلى درجة مساندة العدو. وهنا نلحظ أن جاهلية العصر أشرُ كثيرا من الأولى لأن حصار الكفار للمسلمين في الشعب لم يدم سوى 3 سنوات بينما حصار المسلمين في غزة تجاوز الـ 15 عاما. كما أن الكفار اكتفوا بحصار المسلمين ولم يحاربوهم فيه، بينما كفار اليوم وأتباعهم لا يتوقفون عن محاربة غزة لوأد أي نمو تحققه. وفي الحصار لم يخنهم قومهم ولم يخذلوهم، والآن أغلب الإخوة يخونون غزة ويخذلونها، بينما تساندها دول أجنبية مثل كولومبيا وفنزويلا. نلحظ أيضا أن الجاهلية القديمة أوجدت «حلف الفضول» وتعهدت ألا يُظلم أحد في مكة، بينما نرى اليوم في المنطقة حلفَ ظلم وفجور سمته القوى التي أعلنته عام 2019، زورا وبهتانا، «حلف الفضول الجديد»، مع أنها تشارك في حرب وحصار وخيانة وظُلم غزة. ولكي نستوعب الفارق بين الجاهليتين يجدر أن نلاحظ أنه في الجاهلية الأولى كان تأثير قوى الشر العالمية محدودا مقارنة بطغيانها الحالي. فالآن أحفاد عبد الله ابن سبأ من الصهاينة ومن والاهم هُم المتحكمين في كثير من مقدرات الشؤون الدولية بعدما علوا علوهم الكبير ولم يعودوا فقط محرضين بل أصبحوا الآمرين الناهين لأتباعهم في دول شتى. وهُم الذين اعتبرهم العبقري مالك بن نبي المحرك الحقيقي للغرب بقوله إنهم «عقل وروح الحضارة الأوروبية»، وأضيف هنا «الفاسدة». ويجدر أن نعرف أن «جاهليي العصر» لن يقف بهم الأمر عند مساندة العدو، بل إنهم سيعيدون عبادة الأصنام إلى جزيرة العرب، كما أشرنا من قبل، وفق حديث «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَضْطَرِبَ أَلَيَاتُ نِسَاءِ دَوْسٍ حَوْلَ ذِي الْخَلَصَةِ». وَكَانَتْ ذُو الْخَلَصَةِ صَنَمًا تَعْبُدُهَا دَوْسٌ جنوب جزيرة العرب. كذلك حديث «لا يَذْهَبُ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ حَتَّى تُعْبَدَ اللاَّتُ وَالْعُزَّى»، وهو ما نراه يتجسد بوقاحة هذه الأيام قريبا منّا. نعود هنا لِتَفرُد نموذج غزة لنقول إنه لا يفسره إلا قول الرسول الكريم ﷺ عن «الفئة التي تبقى على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خذلهم»، ونقول إن غزة أجابت وحدها عن السؤال الصعب الذي حير المفكرين والعلماء منذ قرون، وهو «كيف يتخلص المسلمون من عجزهم وتخلفهم»؟ لقد أخذت غزة بالأسباب، فجمعت ما تيسر من الإيمان الصادق والعلم والتكنولوجيا والقوة والحكمة والسياسة، وتصدت وحدها لجاهلية العصر ومن يقودونها، رغم كونها أصغر مساحة إسلامية على وجه الأرض. نجحت غزة لأنها تخلصت نسبيا من قبضة النظام الدولي المبني على فكرة المركز والأطراف التي لا يُسمح لها بالتقدم طالما دارت في فلك المركز. قدمت غزة النموذج المُنْقذ في أكثر صوره اختزالا، والعاقل من يستثمر فيه ولو طال انتظار قطف الثمار. فلك الله ياغزة.