11 سبتمبر 2025
تسجيلالمكان الأول: في العلّيّة المزيد من قرامي الحطب، أظنها تكفي حتى نهاية الشتاء.. رائحة البطاطا المشوية تفوح في الداخل، آه ما أطيب الميرمية مع الشاي الساخن.. كل شيء يزيد ويطيب بالبركة. برغم هطول الثلج ما زالت رائحة الطيون تفوح من سفوح يديها وتقهر كلّ ماركات العطور الفرنسية، أمّا وجهها فمُتبّلٌ بالورد والريحان، بالزوفى والزيزفون والبيلسان، شاهق بيتها، متعانق يرصد الزمان، يستند على مساحة غنية بالرؤى، فلا يخشى من البرق والرعد ومضة، ولا تهزّ حجارته المرصوفة بالألفة ريح، تهزّه فوحة الحبق والوزّال، ونغمة صوتها المتهادي. تنتقي النعناع بالطربون، تُيبسه في الصيف، وورق العريش كالهليون تكدّسه للشتاء، وتكدّس على مخدتها البيضاء المحشوة برغوة حنانها ذكريات تعاودها مع هطول الثلج «والفستان الأزرق».. المكان الثاني: برغم غرور «بكرج» القهوة المرّة، ظلّ المنقل يُعاند جمر أيامه، ويأخذ موقعه الدائم بُعيْد مدخل المضافة بقليل، التي يحتل المهباج الزاوية القصوى منها.. لقد صمت حسرةً منذ زمن بعيد، بعد أن احتلّ خلاط القهوة المستورد مكانه وجرش فرح إيقاعه. أمّا المحماسة فقد استسلمت لمشنقتها على الحائط المجاور بعد أن سلّمتْ مهمتها لكهربائيات العصر، وشاطرتْ قنديل الكاز أحزانه أمام انتصار «النيون» وتركته في مقامه الخشبي المزركش.. وحده الهيل لم يستسلم برغم كل الزمهرير ومدنية الليل، ظلّ فائحاً وطازجاً كما الوشم على يديها اللتين تمرسان «الجميد» وتخبزان اللزاقيات بالسمن والسكّر، ترمي بدمعتها على امتداد السهول المغمورة بمرايا الصقيع، فكلّ الثلوج على مسافات حرّ أوجاع النساء جميعهن لا تُعادل في شفائها الكيّ... المكان الثالث: أمام «تنكة» مثقوبة الأطراف، أشعل بعض الأخشاب وغصون الأشجار اليابسة، لم يكن جبل الشيخ بأطول من قامته الشاهقة، ولم يكن البرد بأقسى من نظرته الثاقبة، ولم يكن الثلج بأبيض من حرير عزّته، يقف ومعه الجهات بشرقها وغربها، بشمالها وجنوبها، أمّا الجهة التي لا يعرفها أحد فهي حنينه، يصفر الريح أمامه وغالباً في وجهه، أمّا الوجه الذي لا يعرفه أحد فهو في الخلف مُتمترس على البندقية، وجه أمه.. وأمّا البيت الذي يحرسه دوماً فهو في كلّ مساحاته ومساماته وامتداده واعتداده ورعوده وصموده يدعى الوطن «المحتل».