29 سبتمبر 2025
تسجيلأحسب أن المطلب العاجل في مصر الآن هو وقف المزاد المنصوب في الساحة السياسية. هذا إذا أردنا أن نحل الأزمة لا أن نعمقها، وأن نلملم الصف ولا نفرقه، وأن نحقن الدماء لا أن نواصل نزفها. أعني بالمزاد ذلك الصخب الذي يقوده بعض المتحمسين الذين استثمروا هياج الغاضبين وساروا يهتفون داعين الرئيس مرسي إلى الرحيل، ومعلنين أن الشعب يريد إسقاط النظام، ومصرّين على إطلاق الثورة الثالثة، بعد إشهار ما أسموه البطاقة الحمراء في وجه الرئيس، وهي التي تعني في أعراف مباريات كرة القدم طرد اللاعب من الملعب.وإذا كان ذلك شأن بعض المعارضين، فإن آراء المؤيدين أو فريق «الموالاة» لم يخل بدوره من المزايدة. فليس صحيحا أن الاعتراض على شرع الله هو المستهدف من المظاهرات التي خرجت، ومن المعيب حقا أن يتحدث آخرون عن تطهير مصر من العلمانيين والملحدين. ومن الخفة والكسل العقلي أن يردد نفر من المتحدثين باسم الموالين عن أن كل ما يجري على أرض مصر ليس سوى مؤامرة مدبرة من الخارج.لا أظن أن مزايدات الموالين تحتاج إلى مناقشة لأن الغلو فيه مكشوف، فضلا عن أن عقلاءهم يستهجنونه، لذلك أحسب أنه لا يستحق أكثر من الإشارة السريعة. ليس فقط لما تتسم به من خفة مستنكرة، ولكن أيضا لأن مزايدات بعض المعارضين تحتل حيزا واسعا من التغطية الإعلامية. سواء فيما يردده المعلقون في الصحف، أو فيما يتحدث به بعضهم في الحوارات التلفزيونية. ومما يجدر ذكره في هذا الصدد أن بعض عقلاء المعارضين استنكروا نداءات الغلاة، وقال أكثر من واحد منهم أنهم لا يتبنون الدعوة إلى إسقاط الرئيس، ولكنهم يطالبونه بتصحيح أخطائه من خلال الرجوع عن بعض قراراته.بالمقابل ينبغي أن نعترف بأن هناك فريقا من المعارضين لا يريدون للأزمة أن تحل، ويهمهم أن يستمر التصعيد أطول مدة ممكنة، غير مبالين بما يمكن أن يترتب على ذلك من تداعيات تصيب استقرار البلد أو اقتصاده أو سمعته الدولية. والذي لا يقل خطورة عن ذلك أنهم لا يقدرون تصور السيناريو ما بعد الرحيل الذي ينشدونه، في ظل رياح الفوضى العارمة المتوقعة في هذه الحالة، إضافة إلى حالة التربص التي تحيط بثورة مصر الآن. وهو الذي يفتح الأبواب واسعة لعديد من الشرور والانتكاسات التي لن تصيب ثورة مصر وحدها، وإنما تستهدف الربيع العربي كله، بكل تجلياته التي تبدت في العالم العربي من أقصاه إلى أقصاه.بين هؤلاء وهؤلاء لابد أن نصوب النظر نحو جموع الشباب الذين صنعوا الثورة واستحضروا الحلم على الأرض، وهم الذين لم يتنازلوا عن حلمهم بعد، وحين غضبوا وخرجوا إلى الميادين والشوارع فلم يكن يشغلهم إسقاط رئيس الجمهورية ومطالبته بالرحيل، وإنما ظل شاغلهم هو كيف يمكن أن تستمر الثورة متخطية في ذلك العقبات التي تعترضها، وقد رأوا في ممارسات الرئيس مرسي وفي أخطاء جماعة الإخوان بعضا من تلك العقبات التي يتعين إزالتها.لا نستطيع أن نتجاهل أن الغلاة وراكبي كل موجة يحرصون على اختطاف هذه الكتلة من الثوار الغيورين على مستقبل البلد وحلمه، وهم لا يكفون عن توظيف غضبهم وحماسهم في التصعيد وتأجيج الحريق. في هذا الصدد ينبغي أن يسجل أن الأخطاء التي وقع فيها الرئيس كانت من أهم العوامل التي ساعدت على تجميع هؤلاء مع غيرهم في مربع واحد، ولذلك فإن إعادة الفرز بحيث يتوجه الخطاب إلى أبناء الثورة دون غيرهم، وينحي الغلاة والمزايدين بعيدا تظل من الحكمة السياسية المرتجاة.للأسف فإن أصوات الغلاة والمزايدين تجاهلت الإشارات التي بدت إيجابية في خطاب الرئيس مرسي الأخير (الخميس 6/12)، وهي التي تبنت في إعلانه عدم تمسكه بالمادة السادسة من الإعلان الدستوري، وفي دعوته إلى الالتقاء بممثلي القوى السياسية للنظر في خطوات المستقبل ظهر السبت (أمس)، والإشارتان فتحتا ثغرة يمكن من خلالها النظر في إمكانية مراجعة ما صدر من قرارات أو ما اتخذ من خطوات. وهو ما تأكد لاحقا حين تسربت أنباء أكدها نائب الرئيس المستشار محمود مكي على استعداد الرئيس لتأجيل الاستفتاء والنظر في إمكانات التوافق حول خطوات المستقبل. إلا أن الغلاة والمزايدين أغمضوا أعينهم وصموا آذانهم ولم يحاولوا استثمار الفرصة لدفع الأمور نحو الانفراج والتوافق، مؤثرين أن يستمر التأزيم والتصعيد.لقد قلت في مناسبة سابقة إن أداء الرئيس يحتاج إلى ترشيد لأن بعض قراراته أفضت إلى مشكلات ولم تحل مشكلات، في الوقت ذاته فإن أداء القوى المعارضة ينبغي أن يتسم بالمسؤولية والترشيد، وأحسب أن رفضها للحوار حول المخرج من الأزمة الراهنة يعبر عن افتقادها للاثنين.