18 سبتمبر 2025
تسجيلصنف الديوان الوطني للإحصاء مدينة القيروان مسقط رأسي هذه الأيام في قمة قائمة الفقر لتصبح الأولى بين ولايات الجمهورية التونسية في نسبة الفقر، أي حصلت القيروان على المركز الأول في معدل أهلها المصنفين تحت مستوى الفقر ! وهي التي صنفها التاريخ الأولى في فتح إفريقية سنة 50 هجرية حينما وصلها المجاهد عقبة بن نافع فأسسها ثكنة لجيشه الإسلامي و شيد فيها جامعها الأعظم أول منارة للدين الحنيف في إفريقية وأول جامعة علمية أشعت على العالم بابن الجزار في طبه و الإمام سحنون باستقلال قضائه و الحصري بشعره (ياليل الصب متى غده) و عبد الله بن أبي زيد بفقهه وابن رشيق بكتابه العمدة. ومن القيروان انطلقت فتوحات المسلمين نحو الأندلس و جنوب أوروبا. والقيروان أيضا هي التي أسست القاهرة في عهد المعز لدين الله الفاطمي وإلى اليوم تسمى القاهرة المعزية كما أسست الأزهر على يد جوهر الصقلي في 17 من شعبان 358هـ 6 يوليو 969م والقيروان هي التي أوفدت بنت القيروان فاطمة الفهرية لتأسيس جامعة القرويين بمدينة فاس فبنيت الجامعة كمؤسسة تعليمية لجامع القرويين عام 245 هـ/859م، في مدينة فاس المغربية وتعتبر جامعة القرويين أيضا أول مؤسسة علمية اخترعت الكراسي العلمية المتخصصة والدرجات العلمية في العالم وتخرج فيها علماء الغرب، وقد بقي الجامع والجامعة العلمية الملحقة به مركزا للنشاط الفكري والثقافي والديني قرابة الألف سنة. درس فيها سيلفستر الثاني (غربيرت دورياك الذي شغل منصب البابا من عام 999 إلى 1003م ويقال إنه هو من أدخل بعد رجوعه إلى أوروبا الأعداد العربية). كما أن موسى بن ميمون الطبيب والفيلسوف اليهودي قضى فيها بضع سنوات قام خلالها بمزاولة التدريس في جامعة القرويين. القيروان كانت الأولى في مقاومة الاستعمار منذ حلوله بتونس سنة 1881 فتكونت فيها أولى خلايا المقاومة المسلحة للتنصير والاحتلال وهي الأولى التي نظمت أول مظاهرة لنصرة القيم الحضارية في أول عهد الزعيم بورقيبة في جانفي 1961 استشهد فيها خمسة مواطنين و رفض أبناء القيروان أنذاك اضطهاد إمامهم الفاضل رحمة الله عليه الشيخ عبد الرحمن خليف، وكانت نتيجة تلك الهبة المباركة الحد من مبادرات بورقيبة العلمانية المرتجلة مثل إلغاء الصيام والتخلي عن الحجاب. لي مع القيروان ذكريات لا تمحى فقد ولدت في حي الجامع قريبا من جامع عقبة وكنت أتردد طفلا على دروس الزيتونة كل يوم إثنين يوم عطلة المدرسة لأتحلق حول أحد شيوخ العلم والأدب أحاول فهم ما يقول وأتعلم اللغة العربية ومعالم حضارتها وكنت تلميذا في مدرسة الفتح القرآنية التابعة للأوقاف التي كان معلموها و مديرها من الوطنيين الدستوريين أمثال محمد بودخان أحد مؤسسي الحزب الدستوري والطاهر عطاء الله وغيرهما ممن كانوا يعلموننا بسلوكهم لا بنصائحهم كيف يدافع الرجل عن حياض الوطن وكان أغلب معلمينا يرتادون السجون صامدين. القيروان كانت تعج (ولا تزال) بأهل الأدب و الشعر من جيل أبائنا أمثال الشيخ صالح سويسي كاتب أولى الروايات في الأدب العربي في مطلع القرن وهي "الهيفاء و سراج الليل". والشعراء محمد الفايز والشاذلي عطاء الله والناصر صدام ومحمد مزهود، ومن رواد النقد محمد الحليوي ثم الجيل الذي تعلم منهم أمثال جعفر ماجد، وفي القصة والنقد أحمد الهرقام وعامر سحنون وصالح القابسي والسيد الهداجي والجيل الذي أخذ منهم المشعل أمثال عبد الرحمن الكبلوطي وجميلة الماجري والمنصف الوهايبي ومحمد الغزي وحسين القهواجي و كثيرون لا يحصون ولا يعدون من أبناء الجيل الجديد الذين حرمتني ظروف الحياة من متابعتهم. و جاءت الستينيات على القيروان محملة بالمصائب سياسية منها و مناخية و معمارية. فالسياسة زلزلتنا حين أعلن الزعيم بورقيبة إنهاء تجربة التعاضد الإشتراكية وهو الذي كان دعمها فوقع إلقاء الوزير أحمد بن صالح في السجن وكذلك والي القيروان المناضل المثقف المنجي الفقيه وعدد من كبار المسؤولين في الدولة بتهمة الخيانة العظمى. أما مناخيا فشهدت سنة 1969 أكبر فياضانات لنهري زرود و مرق الليل فحوصرت القيروان من كل جوانبها بالمياه التي جرفت كل ما صادفها في سيولها ثم و لسبب لم نعرفه خربت السلطات معمار القيروان فبدأت معاول الهدم تدمر أجمل حي في القيروان لبناء "دار الثقافة" عوض تشييدها في الفضاءات العديدة الخالية المحيطة بالمدينة! و تم تعطيل حركة السكة الحديد لأسباب مجهولة كأنما كان البعض يريد الانتقام من القيروان و اليوم تشهد بركة الأغالبة (الفسقية) وهي المعلم الباقي من ألف سنة تدهورا رهيبا و إهمالا تصدى له أبناء القيروان و منهم الأخ الفاضل عبد الجليل الكيلاني من أجل إعادة الاعتبار للفسقية التاريخية. إننا نهيب بالحكومة أن تعيد الإعتبار لمعالم القيروان الخالدة حتى يكون حاضرها جديرا بماضيها و ينعم ساكنوها على الأقل برؤية الفسقية و جامع عقبة محفوظين من عفاء الزمن و إهمال السلطات. واعتذاري للقيروان نابع من شعوري بالذنب نحوها لأنني غادرتها مكرها و قضيت سنوات من شبابي ملاحقا من الإنتربول ممنوعا من العيش في وطني وأجدني أشعر في وجداني بشعور أبي الحسن القيرواني نفسه في رثاء القيروان بعد خرابها على أيدي بني هلال :موت الكرام حياة في مواطنهم فإن هم اغتربوا ماتوا و ما ماتوايا أهل ودي لا و لله ما انتكثت عندي عهود و لا ضاقت موداتكأنني لم أذق بالقيروان جنى و لم أقل ها لأحبابي و لا هاتواهل مطمع أن ترد القيروان لنا وصبرة فالمعلى فالحنيات