14 سبتمبر 2025

تسجيل

هذا الحب الجارف من الشعب لقابوس له دلالاته

09 نوفمبر 2014

ذكرني ظهور جلالة السلطان قابوس بن سعيد حفظه الله تعالى في كلمته المتلفزة من مقر إقامته في ألمانيا، يهنئ الشعب العماني بالذكرى الرابعة والأربعين للعيد الوطني العماني الذي يصادف الثامن عشر من نوفمبر، ويطمئن شعبه الوفي، بأن نتائج علاجه طيبة، وأنه سيبقى لفترة لمتابعة البرنامج العلاجي المعد. وبعد دقائق قليلة من انتهاء كلمته، خرج عشرات الآلاف من أبناء شعبه بصورة تلقائية في كل المحافظات والولايات، فرحا واستبشارا بصحته، وسجد الطلاب والمعلمون في المدارس الحكومية والخاصة، تعبيرا عن حبهم لهذا القائد الذي أرسى دعائم الوحدة الوطنية، والنهضة الشاملة، أقول ذكرني هذا الفرح والحب الجارف، بذكرى توليه مقاليد الحكم في عمان، وثبات الحب والتقدير لهذا القائد المعظم، ففي ذلك اليوم الخريفي البديع الذي يتفرس وجوهنا وملامحنا الشاحبة بأجواء الطقس الجميل، من يوم الخميس 23 يوليو 1970، وقد عشت بنفسي ذكرى ذلك اليوم الخالد، لاحظنا أن الأجواء الملبدة بالغيوم في ذلك اليوم أن هناك أجواء أخرى غير طبيعية من خلال حركة السيارات المتواصلة من قاعدة صلالة الجوية إلى منطقة الحصن، المقر الرئيسي للسلطان السابق سعيد بن تيمور آل سعيد، بصورة تلفت النظر، أو الأصح تستدعي الانتباه لكننا مع ذلك لم نكن نرعى الأمر أهمية لكون الظروف في الوقت ربما تكون أقرب إلى تلك التحركات، وبعد حوالي نصف ساعة من الوقت لاحظنا تحليق بعض الطيران في أجواء روتينية بالمقاييس العسكرية، وما هي إلا دقائق فإذا بأحد موظفي الجهاز الحكومي في ذلك الوقت، وعددهم قليل جداً يعود مرة أخرى لعدم تمكنه من الوصول إلى مقر عمله حيث الدوام آنذاك لفترتين مسائية وصباحية وعندما سألناه عن الأسباب كان رده مقتضباً وهامساً " يبدو أن هناك تحركات غير عادية وحركة الدخول والخروج بمنطقة الحصن شبه ممنوعة".توقف النشاط الكروي تماماً فإذا بنا نركض كل في اتجاه وإن كان أغلبنا اتجه إلى ميدان الجامع بسلالة حيث الطريق الرئيسي إلى منطقة الحصن فإذا بجموع المواطنين واقفة في الميدان ترقب التحرك بما يشبه الترقب بحدوث أمر ما يكون مدعاة للخروج من محنة العزلة وألم التخلف ومتاعب التشتت ولم يطل الانتظار في الترقب الذي أتى بهواجس ووساوس كثيرة بعضها كان أقرب للتوقع بما حدث.وقبل أذان المغرب بدقائق معدودة إذا بأحد الأشخاص يأتي من منطقة الحصن ـ التي عاشت أحداث الساعة الساعات التاريخية في ميلاد عماننا الحديثة ـ باسماً مستبشراً وهو يتجه إلى الجموع المحتشدة بالميدان (البشارة.. لقد تولى قابوس مقاليد الحكم، وقد خرج ماشياً في المنطقة السكنية المحاذية لقصر الحصن يحيي جموع المواطنين الذين خرجوا بتلقائية لتحيته بتوليه الحكم وتحمد الله وتشكره) وارتفعت أصوات الجموع بالتكبير والدعاء وسمعنا بعدها بدقائق مدينة صلالة ترتج بالزغاريد من البيوت ورأيت بنفسي الدموع تنهمر بعفوية من العشرات الواقفين.. إنها دموع الفرح والفرج الذي طال انتظاره وتحقق على يد القائد الباني قابوس.إن الحدث فاجأنا حتى أن بعضنا لم يكن يصدق ما حدث، إنه أشبه بحالة استثنائية غير متوقعة.. إنها ولادة جديدة بكل معاني الكلمة لوطن يعاني الكثير من ويلات الحرب والتمزق والشتات وزحف الليل على مدينة صلالة ورغم سدوله المعتم، إلا أن نور الفرج قد لاح منذ ساعات بخبر تولي قابوس الحكم وعاشت المدينة وبقية القرى في ليل سعيد لم تعرفه منذ سنين كثيرة في أحاديث وتوقعات وأحلام.. ولم نستطع أن نقسط الحلم أو نطرده لأننا عشنا أوقاتاً نبحث عن حلم يزيح ما يجيش في النفس وعن خواطر وطن أضحى يتراجع ويتقلص بعدما كانت شهرته في الأوقات تضرب بها الأمثال قوة وتاريخاً ومجداً.ونستذكر أول بيان للسلطان من صلالة بعد توليه مقاليد الحكم عام 70م، إذ عبر عن ذلك بقوله:(إني أعدكم أول ما أفرضه على نفسي أن أبدأ بأسرع ما يمكن أن أجعل الحكومة عصرية وأول هدفي أن أزيل الأوامر غير الضرورية التي ترزحون تحت وطأتها.أيها الشعب، سأعمل بأسرع ما يمكن لِجَعْلِكُمْ تعيشون سعداء لمستقبل أفضل وعلى كل واحد منكم المساعدة في هذا الواجب، كان وطننا في الماضي ذا شهرة وقوة، وإن عملنا باتحاد وتعاون فسنعيد ماضينا مرة أخرى وسيكون لنا المحل المرموق في العالم العربي، إني متخذ الخطوات القانونية لتلقي الاعتراف من الدول الخارجية الصديقة، إني أتطلع إلى التأييد العاجل والتعاون الودي مع جيراننا وأن يَكُون مفعوله لزمن طويل والتشاور فيما بيننا لمستقبل منطقتنا، إني أستحثكم الاستمرار في معيشتكم المعتادة وإني سأصل إلى مسقط خلال الأيام القليلة القادمة وهدفي الرئيسي ما سأخبركم به.شعبي.. إني وَحُكُومَتِي الجديدة نهدف لإنجاز هَدَفنَا العام.. كان بالأمس ظلام ولكن بعون الله غدا سيشرق الفجر على عمان وعلى أهلها، حفظنا الله وكلل مسعانا بالنجاح والتوفيق).وعندما اتجه من صلالة إلى مسقط بعد عدة أيام توليه مقاليد الحكم، يصّور الصحفي السوري المعروف رياض الريس، في كتابه:( ظفار الصراع السياسي والعسكري في الخليج العربي)، استقبال العمانيين لقائدهم المعظم بمسقط فيقول: (لا أذكر أنني شاهدت في عمري فرحاً كالفرح الذي شاهدته في مسقط، عند تولى قابوس السلطنة، ورقص الناس في الشوارع، رجالا ونساء وأطفالا. لم أسمع زغردة أطول وأنقى من زغردة النساء، كانت الزغاريد من القلب، من حرقة الماضي، من ظلم السنين الطويلة، كان شيئا عجيبا من الحمى يسري في المئات الذين هاموا فرحاً ونشرة وسرورا بالشاب الأسمر الخجول النحيل صاحب اللحية السوداء الكثة الطويلة، كلهم يريدون أن يروا قابوس، السلطان الجديد.لم يتغير الحب لهذا السلطان الحكيم المحب لشعبه وأمته، بل ازداد هذا الحب، حتى من المعارضين أيضا، الذين عادوا إلى وطنهم، أفرادا في أوقات مختلفة، ودعاهم إلى بناء عمان، بلدهم، وتقلدوا مناسب كبيرة في الدولة في كل القطاعات، ومن شتى التيارات الفكرية، بل إن السلطان اتبع سياسة التسامح والعفو في مواقف وأحداث كثيرة، ليست هي مجال حديثنا الآن. قد يسأل البعض استغرابا لماذا هذا الحب الكبير للسلطان قابوس من شعبه؟ ومن التقدير أيضا من أمته والإنسانية جمعاء؟ والجواب أن هذا السلطان حفظه الله وعافاه وأطال في عمره، اتبع سياسة الحكمة والتسامح والعفو، ولم يتخذ قرارات تتسم بالحدة والقسوة، وأحب شعبه، وأسس لنهضة بخطوات متدرجة، تجنّب فيها سياسة حرق المراحل، أو القفز على الواقع، أو اعتماد الشعارات البراقة دون المضامين، فاكتسب حب الداخل، واحترام الخارج، وبقي التقدير والحب ثابتا.