31 أكتوبر 2025

تسجيل

الإعلام وصناعة الجواسيس في مصر

09 أكتوبر 2012

كان الصحافي مصطفى أمين رشيقا في أسلوبه سهلا في تناوله لموضوعاته مباشرا في بلوغه لهدفه. وقد كنت وأنا صبي صغير مولعا بمطالعة مقاله اليومي المنحوت كقطعة فنية أصيلة على أقصى يسار الصفحة الأخيرة لجريدة الأخبار المصرية. وأذكر أني كنت أستمتع بقراءة مقاله سريعا كل صباح وأنا عائد إلى المنزل لأسلم الصحيفة إلى والدي دون أن يشعر أنني قد عبست بأوراقها. وقد كانت لأمين مواقف مشهودة ليس بإمكان أحد على ما أعتقد ممن عاصروه أن ينساها، أذكر منها أنه حينما دب خلاف بينه وبين مبارك، أخرج أمين مقاله بالجريدة بصورة عمود فارغ من الكتابة تماما إلا من إمضائه أسفل هذا الفراغ.. إلا أن مبارك لم يتمكن أبداً من سجنه كما فعل عبد الناصر حين اتهمه في فترة حكمه بأنه كان يتجسس لصالح جهاز المخابرات الأمريكي، ومن ثم فقد حكم عليه بالسجن تسع سنوات. ومع معرفتي بهذه الاتهامات إلا أني لم أصدقها أبداً حتى بعد أن نشرها الكاتب الصحافي محمد حسنين هيكل في كتابه بين الصحافة والسياسة. والسبب أن عبد الناصر قد سجن الجميع ربما كان الاستثناء الوحيد هو الأستاذ هيكل فقط. وبعد وفاة مصطفى أمين لم يتمكن أحد من أن يملأ الفراغ الذي تركه على الصفحة الأخيرة من صحيفة الأخبار أبدا، ولا الفراغ الذي تركه في دنيا كتابة المقال الصحافي في رأسي، إلا البارع إبراهيم عيسى والذي كانت له مواقف معروفة من مبارك ونظامه. وظللت أعكف على مطالعة مقالاته حتى أفجعني بمقال تحت عنوان (العملاق الذي تجسس) والذي جاء فيه أنه قد تأكد أخيراً من أن مصطفى أمين كان يعمل جاسوسا لوكالة المخابرات الأمريكية المركزية، وما أدهشني هو الطريقة التي أنهى بها عيسى مقاله هذا. فمع تيقنه من أن مصطفى أمين كان جاسوسا إلا أنه متأكد من أنه قد تاب، وبهذا تكون رسالة عيسى للقارئ كالآتي: نعم أمين كان يعمل جاسوسا، ولكن لا مانع من أن تستمر في حبه، ولعل العبارة التي تعد حجر الزاوية في مقال عيسى هي قوله (هل برر مصطفى أمين لنفسه العمل جاسوسا بالفصل بين عبد الناصر ومصر، واعتبر التجسس ضد رئيس وليس ضد وطن؟ هذا مبرر غبي لا يليق بجاسوس مثقف ذكي).... والمدهش في هذه العبارة هو أنه لم يعز رفضه للتجسس إلى حسه الوطني وحرصه على بلاده، وإنما لثقافته وذكائه. ولا أدرى متى كانت الثقافة والذكاء تعصمان من الوقوع في الذلل؟ بل متى اختارت واحدة من أجهزة المخابرات في العالم شخصية مسطحة غبية لتعمل لديها؟ فالخيار الأفضل دائما لهذه الأجهزة هي الشخصية الذكية المطلعة المثقفة، ويا حبذا لو كانت تتمتع بقبول لدى الرأي العام في بلدها حتى يمثل لها غطاءً شعبيا معيقا للنظام عند الاقتراب منه، كما كان حال مصطفى أمين وربما غيره. ولكن مع ذلك كله فما زلت لا أصدق أن مصطفى أمين قد كان جاسوسا، وتراني أسأل نفسي: لم لا أستطيع التصديق؟ هل لأنه كان مدافعا دائما في كتاباته عن الحريات؟ هل لأنه كان يجيد الكلام في كل مجالات الآداب والفنون والسياسة؟ أم هل لأنه كان نافذة نلتقط فيها أنفاسنا في عصر مبارك البغيض؟ لا أدرى ماذا يمكن أن تكون الإجابة. لكن السؤال الأهم الذي لم يسأله عيسى في مقاله هو: كيف استطاع أمين أن يخدعنا كل هذا الوقت؟ وهل هناك آخرون مازالوا يخدعوننا مثله؟