13 سبتمبر 2025

تسجيل

ربيع سياسي.. خريف اقتصادي

09 أكتوبر 2011

بعد انتهاء فصل "الربيع العربي" في شمال إفريقيا، تونس ومصر وليبيا تلقت هذه البلدان، وبالأخص مصر وتونس وعودا وردية من المجتمع الدولي، وبالأخص من بلدان الاتحاد الأوروبي بتقديم مئات الملايين من "اليورو" للمساعدة في تغطية تكاليف الربيع والمساهمة في إنعاش اقتصاديات هذه البلدان. ووفق الوعود التي قدمت لمصر وتونس، وذلك قبل أن تنضم إليهما ليبيا، فإن مجموع المبالغ التي تعهدت بها مختلف البلدان والمنظمات الدولية بلغ 40 مليار دولار، منها 20 مليار دولار للسنتين القادمتين لتشجيع البلدين على القيام بإصلاحات اقتصادية لتحفيز النمو فيهما. ومن سوء حظ هذه البلدان أن الوعود قدمت في وقت تعاني فيه البلدان الغربية من أزمات متتالية، إذ بلغت حصة المساهمة الغربية 10 مليارات دولار من أصل المبلغ المقرر، حيث لا يعد ذلك مبلغا كبيرا إذا ما قورن بحزمات الإنقاذ التي قدمت لليونان على مراحل، حيث بلغت حزمة الإنقاذ الأولى وحدها 109 مليارات يورو (150 مليار دولار) وذلك إضافة إلى أموال الإنقاذ المقدمة من صندوق النقد الدولي. والمبالغ الوحيدة التي وصلت حتى الساعة، هي مساهمة الإمارات والسعودية وقطر وفق تصريحات وزيري المالية المصري والتونسي، حيث يتوقع أن تصل مساهمة دول مجلس التعاون إلى ما يتراوح ما بين 5-7 مليارات دولار، وذلك إضافة إلى تقديم تسهيلات أخرى تتعلق بالتجارة والتعاون الثنائي. لقد أدت الأحداث إلى اللحاق أضرارا شديدة بالاقتصاديات العربية، فالقطاع السياحي الذي تعتمد عليه مصر وتونس مازال يعاني، وذلك رغم هدوء الأوضاع هناك، فخسائر قطاع السياحة العربي بلغت 7 مليارات دولار حتى الآن، كما أن خسائر شركة مصر للطيران وحدها بلغت 300 مليون دولار تقريبا في الأشهر التسعة الأولى من العام الجاري، في الوقت الذي تراجع فيه النمو في مصر من 5.1% العام الماضي إلى 1.8% فقط هذا العام. وفي ليبيا، فإن إنتاج النفط لن يرجع إلى مستوى ما قبل الأحداث قبل عام 2013، أما اليمن، فإنه على شفا مجاعة حقيقية بسبب توقف الأنشطة الاقتصادية. لذلك، فإن الحياة المعيشية لقطاعات كبيرة من السكان تضررت وفقدت فئات كبيرة من المجتمع وظائفها وأعمالها، وذلك لأسباب عديدة، يأتي في مقدمتها هروب رؤوس الأموال وبعض المؤسسات الأجنبية وتوقف أو تراجع أنشطة قطاعات اقتصادية رئيسية، كالنفط والسياحة والنقل والخدمات وتضرر البنية التحتية بصورة كبيرة. ورغم أن البطالة كانت أحد أسباب الاحتجاجات، فإن المزيد من الأشخاص فقدوا وظائفهم وانضموا إلى طوابير العاطلين عن العمل، مما يضع المزيد من الأعباء على السلطات الجديدة، وبالأخص في تونس ومصر لتوفير مئات الآلاف من فرص العمل. ومن أجل ذلك، فقد أصبح من الضرورة بمكان العمل على سرعة عودة الحياة الاقتصادية إلى طبيعتها، وذلك بدلا من الانغماس في إجراءات الثأر والانتقام، كما أشار إلى ذلك بصورة صريحة وواضحة نيلسون مانديلا في رسالته إلى الشعبين المصري والتونسي، حيث تحمل رسالة مانديلا دلالات خاصة بحكم تجربته وتسامحه وتساميه على روح الانتقام التي لا جدوى منها، حيث لا يمكن الشك في نوايا مانديلا وحبه للحرية، وهو الذي افتقدها 27 عاما، إلا أنه حول بعدها بلده إلى بلد صاعد اقتصاديا وعضو في مجموعة العشرين التي تسير الاقتصاد العالمي. وتأتي مسألة وقف نزيف تسرب الاستثمارات والعمل على جذب استثمارات جديدة على رأس أولويات الأنظمة الجديدة التي تشكلت في هذه البلدان، علما، بأن كلا من مصر وتونس وليبيا تتوفر فيها فرص استثمارية مجدية، كما أن هناك الكثير من المستثمرين الراغبين في توظيف أموالهم في البلدان الثلاثة، وبالأخص المستثمرون الخليجيون، إلا أن ذلك بحاجة إلى الاستقرار أولا وثانيا لابد من عودة الأمور إلى طبيعتها من أجل إحياء الدورة الاقتصادية من جديد. وللأسف، فإن الأمور لا تسير وفق هذا المنهج، فالاهتمامات موجهة نحو المحاكم والتشفي، ورغم أهمية المحاسبة وعلى رأسها المحاسبة المالية، إلا أن ذلك يجب ألا يشكل أولوية ويتم تقديمه على الأولويات التنموية، إذ لا يمكن في هذا الصدد إلقاء اللوم بصورة كاملة على المجتمع الدولي في تباطؤه في تقديم الأموال التي التزم بها، إذ من المفترض أن تساعد البلدان الثلاثة المجموعة الدولية من خلال تهيئة الظروف الجاذبة للاستثمارات. وفي هذا الصدد من المفيد أن نستحضر الظروف المشابهة التي مرت بها أوروبا الشرقية في بداية التسعينيات من القرن الماضي بعد سقوط الأنظمة الشمولية هناك، حيث اتجهت هذه الشعوب مباشرة إلى مواقع الإنتاج لتنمية بلدانها رامية خلفها إرث الماضي بكل تناقضاته، بل إن الحكومة الألمانية الموحدة لم تلاحق رئيس ألمانيا الشرقية السابق إريك هونيكر لأسباب إنسانية. ولكن يبدو أن الثأر جزء أصيل من الثقافة الشرقية المرتبطة بتخلف المجتمع وبنيته الاقتصادية، مما يتطلب رفع الوعي الاجتماعي والثقافي والتركيز على التنمية والمستقبل بدلا من الالتفات للماضي والتمسك به على حساب التنمية.