11 سبتمبر 2025
تسجيلهناك أصناف من البشر لا أطيق صحبتها: الإنسان كثير الشكاة، والحسود والعبوس، أو ذلك الصنف من الناس الذي كلما قال أحدهم طرفة أبدى تعجبه من ضحك الآخرين، أو قال: نوت فاني، (not funny) فهكذا صارت عبارة "مش/ مو حلوة" تستبدل بما يقابلها بالإنجليزية، المهم أنني من الصنف الذي يضحك (ويعطس) ويحدث زلزالاً في ما حوله، وأحب كل إنسان بشوش ضحوك، ولكنني لا أحب الضحك على الآخرين أو على عثراتهم، والله ينجيني من الكورونا لأن عطستي تنثر الرذاذ لمسافة خمسة أمتار مع هزة أرضية. عندما كنت مدرساً في "الخرطوم بحري الثانوية"، كان من عادتي أن أقف أمام حجرة الدراسة لنحو ثلاث دقائق بعد رنين جرس بداية الحصة، حتى يتسنى لجميع الطلاب دخول الحجرة قبلي، مما كان يعني ضمنا أنني لا أسمح بدخول طالب إلى حجرة الدراسة بعد دخولي فيها، وفي الحصة الثالثة من ذات يوم جاء طالب بعد بداية الحصة بعشرين دقيقة ونقر الباب طالبا الإذن بالدخول، فقلت له إنني لن أسمح له بالدخول لأنه تأخر لعشرين دقيقة، فإذا به يصيح: أنا في الحقيقة متأخر 3 ساعات. فقلت له: في الحالة دي ارجع بيتكم، فقال منفعلاً: طلعت من بيتنا 5 صباحاً وأبوي وصلني بالحمار لغاية خط اللواري (الشاحنات)، ومن لوري إلى لوري ومن حافلة إلى حافلة، ثم من موقف الحافلات إلى المدرسة كداري (سيراً على الأقدام)، تقول لي "ارجع"؟ أنت ما نصيح؟ وما نصيح في العامية السودانية تعني "مجنون". وطوال هذا الموال كان الطلاب يجلسون صامتين تماماً، ولكن ما أن شكك ذلك الطالب في قواي العقلية حتى سمعت أحدهم يقول بصوت خافت: يا ساتر! ثم تفجرت الأوضاع بانفجاري ضاحكاً بهستيريا، وسقط الكتاب والطباشير من يدي، ثم انتقلت العدوى إلى الطلاب، فتفجرت الضحكات، وخرج المدرسون من بقية الفصول وعلى وجوه بعضهم الاستياء بسبب "الإزعاج" وتحول الاستياء إلى دهشة عندما انتبهوا إلى أنني بندر شاه الجالس في مركز الفوضى، ومايسترو الضحك الهستيري. لم يكن مألوفاً أن يتفوه طالب بأي كلمة مسيئة أمام المدرسين، ولهذا كان طالب ما محقا عندما هتف "يا ساتر"، وهي كما نعلم تقال عند توقع عواقب وخيمة، ولكنني ضحكت عندما تساءل الطالب عن مدى سلامة قواي العقلية، لأنني أدركت أنني مارست درجة من الغطرسة الإدارية – دون قصد - عندما رفضت السماح له بدخول غرفة الدراسة، غير مدرك لحجم معاناته كي يصل إلى المدرسة، ولأن عبارة "أنت ما نصيح؟" خرجت من فمه بعفوية أهلنا الطيبين. لاحقاً سألني أحد الزملاء، ونحن مجموعة من المدرسين نجلس تحت شجر ظليل في فناء المدرسة، عن سبب قهقهتي المُعدية، فسردت عليه ما حصل فقال: صحيح مجنون، وانفجر الجميع ضاحكين، فخرج علينا مدير المدرسة، وعندما سمع تفاصيل الحكاية ضحك قليلاً، واستدعى ذلك الطالب ثم طلب من مجموعة المدرسين أن ينظروا إليه جيداً، ثم قال: ما في مدرس تاني يعاقبه على التأخر في الوصول إلى المدرسة. (أنظر عقلية التربوي الحقيقي). استعدت تلك الواقعة لأنني أريد أن أكتب وأتكلم عن الضحك، بل الإعلاء من شأن الضحك، بل بأن يكون الضحك روشتة/ وصفة يومية نتلقاها في البيوت وأماكن العمل والدراسة وأينما يكون تجمع بشري، لأن هناك من يعتبرون الضحك، نوعاً من الرخاوة عند الرجال والميوعة وقلة الحياء عند النساء، ونردد مقولة "الضحك بلا سبب قلة أدب"، وكأنها نص مقدس، بينما وفي حقيقة الأمر لا يستطيع كائن أن يضحك في غياب "سبب" مضحك، ما لم يكن منافقا (كالذي يضحك لكل سخافة تصدر عن "المدير")، أو خائفاً من شخص ما وتريد أن تمتص انفعاله وغضبه. وبسبب نظرتنا السلبية للضحك صارت من العبارات الدارجة في ثقافتنا "ضحك على العقول"، و"فلان ضحك علينا" وهنا يعني الضحك الاستهبال والاستغفال، وليس انفجار الأصوات العفوي الذي يرتج له الجسم وترتاح له النفس. [email protected]