03 نوفمبر 2025
تسجيلكان رجلاً حنيفا يعبد ربَه اللهَ على دين أبي الأنبياء والمسلمين، إبراهيمَ عليه الصلاة والسلام، وكان قد حبّب الله إليه الحنيفيَّة السمحة، حتى تزيّن قلبه بها، وأُشربها، كما أشربت عروقه الدم، وكرَّه إليه ما سوى دينه الحق، من اتباع باطل الأخلاق والأهواء، واعتقاد زُلفى الأصنام والأوثان، وما كان إلى ذلك من كفران وعصيان. إذن كان مسلما لله خاضعا له مستسلما، كلَّ الخضوع والاستسلام، كان مسلماً والإسلام هو دين الفطرة السوية، ودين كافة الرسالات السماوية، التي أُنزلت على الرسل، فدانوا به لله ربهم، وبلغوه إلى من أرسلوا إليهم من أقوامهم، كما أُمروا، وكما ينبغي أن يكون الإبلاغ، وأداء الأمانة، وفق ما أمر الله وارتضى، إلى أن ختمت الرسالات، وختم المرسلون والنبيون، بسيدهم وإمامهم محمد، صلى الله عليه وسلم، الذي أُرسل رحمة وهداية ونوراً، للعالمين كلِّهم أجمعين، فكان خيرا عميماً، ومصباحا مضيئاً، عمَّ خيره الأصقاع، وفاض نوره وشاع، على ما طلعت عليه الشمس، مما هو على وجه الأرض، من الأحياء والكائنات، ذات الروح والحس.إنه رجل يُدعى أبو ضمضم، فمن تُرى هو أبو ضمضم؟ وما يكون شخصه في الوجود؟تالله إن له لنبأً عظيما، وإليك قصة نبئه العظيم.أحبُ ما كان يحبه أبو ضمضم في حياته، هو التقرب إلى الله تعالى بالعمل الصالح، لم يكن سواه يشغل باله، ويستغرق همه، لِما أوتي من بصيرة نافذة نيرة، فقه من خلالها كيف يعبد ربه، وكيف يبتغي إليه الوسيلة، التي تبلغه مرضاته ومحبته، تلك البصيرة جعلت له حكمة يؤمن بها، ويعمل على نور هديها.وتلك الحكمة عنده من أعظم المنن، وأسبغ النعم، فقد فهم معنى الإسلام في الدين، المبني على إشاعة السلام. وفَهِم معنى العبادة والعمل الصالح، اللذين لا يقتصران على المظاهر والأشكال، فهم كل أولئك على الوجه الصحيح القويم، الذي به يقبل منه ما يؤدي من عمل، ويثاب عليه من الله الثواب الجزيل.من ذلك أنه يبغي التصدق والعطاء والجود، على الخلق في كل يوم وفي كل حين، يجد في هذا لذة وغبطة، تغمران قلبه ونفسه بالسعادة والسرور والارتياح، فكان حريصا على ذلك ما استطاع إليه سبيلاً، ولكن ماذا يفعل؟ وماذا في يده؟ وواحَرباه، وواحسرتاه.فقد قُدِرَ عليه رزقه، ولم يرزق إلا الكفاف، وحسبه إياه، إذ هو خير ما يرزق العبد، وهو به راضٍ، فإنه لم يؤتَ سعة من مال، ولا فضلة من طعام، يجود بهما على الأنام، كما يحب ويشتهي.هذه هي حاله التي جعلته يفكر في أمره، ويدبر شأنه، ويطيل التفكير والتدبير، ليجمعَ من دنياه ما تشتت وما تفرق، ويحسبَ منه ما له وما عليه، وما يجب له وما ينبغي فيلتزمه، وما يُحرم عليه ويُكره فيجتنبه، فكان أن اتخذ رأيا في نفسه، عزم على إنفاذه، وأصر على إحقاقه، ليتقرر في حياته، ويا له من رأي! لا تقرر مثله النفوس، ولا تعزم على مثله القلوب، سنعلم نبأه بعد حين.كان أبو ضمضم يخرج من بيته مبكرا دَوْما في وقت السحَر، هذا هو دَيْدَنه الذي اعتاد عليه، وألفه، يخرج وهو مشرق الوجه، مبتسم الثغر، لما في نفسه من إيمان يُشيع فيها الرضا والقناعة والاطمئنان، إنه إيمانٌ حلّى نفسه بخلال وخصال قليلة الأمثال، اتسمت بها شخصيته، التي امتازت بها من بين الشخوص.مما أضفاه عليه الإيمان، وصبغته به الحكمة، من خلالِ وخصالِ مكارم الأخلاق، الحِلمُ والصفحُ، اللذان مكّنا صدره أن يسع الناس كما هم الناس، بحماقاتهم وسفاهاتهم ومظالمهم، وكل ما برح لهم من سوء وشر، وقبح وعيب، ويا لله ولطفه وغوثه من كل أولئك. وليس ذلك فقط ما كان من أبي ضمضم من سعة صدر وقبول للناس، ولكن كان أيضا يتصدق عليهم وهو الذي يحب التصدق كما بيّنا سلفا.فرضت الحياة على أبي ضمضم، كما فرضت على غيره، ابتغاء الرزق، والسعي إلى طلبه، والمشي في الأسواق لتحصيله، لا محالة من ذلك ولا بد، مما ألزمه مخالطة الناس، والتعامل معهم، بما يقتضيه التعامل من الشد والجذب، والأخذ والطلب، والمنح والسلب، على اختلاف طباعهم، وتباين صفاتهم، بما لهم من نفوس وأخلاق، ليست كلها بلا ريب على سواء واحد.إلا أن أبا ضمضم كان لا يعامِل كما يعامَل، ولا يكيل بما يكال به، كأنه عالَم وحدَه بين عوالم أخرى لا تمت له بصلة ولا سبب، من ذلك أنه لا يأخذ غيره بما جنت نفسه الجانية في حقه، بحيث لا يظلم من ظلمه، بل يعفو عنه ويصفح، ولا يعيب من عابه، ولا يرى شتيمة من شتمه، بل يترفع ويسمو بنفسه، وإن هذا لشيءٌ عجاب، ومن هو كذلك، محال بالطبع أن يصدر عنه أي سوء وأذى لأحد.اتفق لأبي ضمضم ذات يوم، أن واجه فيمن يواجه من الناس، رجلاً جِلْفا فظاً، شاء القدر أن يجمعهما في طريق واحد، ليكون كلاً منهما ابتلاءً للآخر، يكون اختبارا لهما، يأخذان منه ويتعلمان عبرة ودرساً مما تلقيه الحياة لنفع الناس.تعرض ذلك الرجل لأبي ضمضم، في أثناء معاملته، وأساء له بقوله، وأغلظ عليه في فعله، وكان ما كان منه في حقه، غير أن أبا ضمضم، أبدى الحسنى، وقال قولا حسنا كريما، ثم أعرض مودِّعا بسلام، وعلى وجهه ابتسامة تقرب أن تكون ضحكاً.لم يكن من ذلك الرجل إلا العجبُ والدَّهَش والحَيْرة، حتى إنه سأل من كان شاهداً ما حدث بينهما، وقال: من ذلك الرجل؟ أيعرفه أحدكم؟فقال بعضهم: نعم أنا أعرفه حق المعرفة، فإنه جاري، وبابه إلى بابي، إنه أبو ضمضم.فرد الرجل قائلاً: أبو ضمضم!! ما أغرب اسمه! الذي ليس بأغربَ من خُلقه كذلك، والله إنه لرجل غريب.فقال جار أبي ضمضم: أنا أعرف من أمره ما يذهب عنك الغرابة، ويذهب عنك الدهشة.إنني أسمعه يقول إذا أصبح كل يوم، خارجاً من بيته: اللهم إني قد تصدقت بعِرضي اليوم على الناس.فقال الرجل: والله ما ازددت منه إلا عجبا وغرابة، ذلك المتصدق علينا بعرضه، فما علمنا رجلا من قبله، تصدق على الناس بعرضه، لله هو، ولله أبوه! ما أكرمَهْ وما أجودَه! هذا الذي لا نطيق له جزاءً، فإن جزاءه لا يملكه له إلا خالق العِرْض، في يوم العَرْض.بهذه النفس الطاهرة النقية، وهذه الأخلاق الزاهرة البهية، جاء ذكر أبي ضمضم، على لسان خير البرية، إذ قال بينما كان جالساً بين أصحابه: (أتعجزون أن تكونوا مثل أبي ضمضم؟ قالوا: ومن أبو ضمضم، يا رسول الله، قال: أبو ضمضم رجلٌ فيمن كان قبلكم، كان إذا أصبح قال: اللهم إني قد تصدقت بعرضي اليوم على من ظلمني).