14 سبتمبر 2025

تسجيل

ثلاث مراحل للخروج من الأزمة السودان: آفاق غبشاء 7

09 يونيو 2014

googletag.display('div-gpt-ad-794208208682177705-3'); googletag.cmd.push(function() { googletag.display('div-gpt-ad-1462884583408-0'); }); المرحلة الثالثة: آفاق ما بعد الانتقال 1.الآفاق السياسية المرحلة الثالثة في مراحل التحول الديمقراطي هي مرحلة تعزيز الديمقراطية (Democracy Consolidation)، وتأتي بعد المرحلتين الأوليين، مرحلة التغيير ثم المرحلة الانتقالية حسب تصنيف البعض.. الحدود الفاصلة بين المرحلة الانتقالية ومرحلة تعزيز الديمقراطية هي خطوط غير واضحة، حيث قد يصعب أحياناً وصف بلد معين في مراحله الانتقالية بأنه ديمقراطي أو غير ديمقراطي، فإذا قبلنا تعريف الديمقراطية في حدها الأدنى وهو اختيار الحاكم عبر انتخابات حرة ونزيهة حسب المعايير الدولية، وحد أدنى من الحريات المدنية، فإن تعزيز الديمقراطية يبدأ مباشرة بعد استيفاء هذه الصفات.هنالك اختلاف أكاديمي حول مفهوم تعزيز الديمقراطية نفسه- (راجع أندرياس شيدلر"- ما هو تعزيز الديمقراطية؟") ويمكن وصفها سلباً باعتبارها العمل على المحافظة على الحد الأدنى منها ومنع العودة إلى القهرية، أو بأنها العمل من أجل البقاء (survival). الوصف الثاني إيجابي وهو العمل على (تجويد) الديمقراطية في المعيار الذي وضعه شيدلر: حكم قهري – ديمقراطية اقتراع – ديمقراطية ليبرالية – ديمقراطية متقدمة.الذي يهمنا في حالة السودان هو ضمان تجاوز المرحلتين الأوليين، الحكم القهري والديمقراطية الهشة التي تعتمد على الاقتراع دون أن تترسخ في المؤسسات والثقافة على الوجه المطلوب.. أو باستخدام تصنيف شيدلر، وبناءً على واقع السودان الحالي، تعزيز الديمقراطية المطلوب هو التعزيز السالب: العمل لبقاء الديمقراطية ومنع العودة إلى القهر كما حدث عندنا أكثر من مرة. أقول هذا لأنه التدرج الطبيعي لبلد عاشت في الحكم القهري لربع قرن، سيكون من السذاجة أن نبذل جهداً في اختيار الطلاء المناسب لتزيين الحائط إذا كانت اللبنة نفسها لا زالت رطبة وطرية لم تبلغ التماسك والصلابة المطلوبة.. المهمة الأساسية لنا جميعاً كسودانيين ستكون متى وصلنا إلى الحكم الديمقراطي، هي أن نقفل جميع منافذ الحكم القهري ونسد كل الدروب العائدة إليه حتى لا يبقى لنا سبيل إلا الاستمرار في درب الحرية مهما وعر وتمنّعت علينا مسالكه. وحتى نتمكن من ذلك، فهنالك عاملان مهمان لابد من توفرهما في سنوات الديمقراطية الأولى وهما: سلبية الجيش وإيجابية القضاء، لنفصل في ذلك فيما يلي.• سلبية الجيش: وهي عكس ما كان مطلوباً من الجيش في الفترة الانتقالية، حيث إن الوجود الإيجابي في المشهد السياسي كان ضرورياً لتأمين حالة الانتقال الحرجة وحراسة التحول الهش من الأطماع الخارجية والانتهازية الداخلية. أما بعد أن تبدأ البلاد مرحلة الحكم الديمقراطي فالمطلوب هو خروج الجيش من المشهد السياسي تماماً.. معلوم أن الديمقراطية الوليدة ستتعثر كثيراً قبل أن تحسن المشي ولكن لو حملها الجيش على ظهره فإنها لن تحسنه قط.. ومعلوم أيضاً أن هذه الوليدة سينهكها كثرة التعثر وصعوبة الوصول إلى مراميها وأنها ستلجأ باكية إلى الجيش ليحملها إلى تلك المرامي بدلاً من أن يتركها لمعاناتها، ولكن على الجيش أن لا يتدخل إطلاقاً، مهما تعثرت وأدمت وتكدمت وعلا بكاؤها واستنجادها طلباً للغوث يجب أن لا يتدخل، في النهاية ستمشي الوليدة ويعتدل خطوها دون عون منه.الجيش نفسه ينبغي أن ينمّي حسّه المهني الذي أفسدته سنوات طويلة من العمل السياسي.. ينبغي أن تعمل القيادات العسكرية الوطنية على إعادة صياغة الذهن العسكري بحيث ينفر عن السياسة كما ينفر الآن من المدنية أو (الملَكية) كما يسميها احتقاراً.. ينبغي أن يعاد إلى العسكر ذلك الإحساس بالامتياز والذي مصدره الطبيعة النبيلة للعمل الذي يقومون به، حماية الناس من العدوان. ولكن هذا الامتياز له ثمن يستوجب الدفع.. ينبغي أن ترد إلى العسكر تلك المهابة والرفعة التي كانت تسِمُهم في زمن ما، حيث كانت الجندية من أشرف المهن وقد صارت الآن من أحقرها، حيث كانت العذارى يتغنين لصاحب البدلة الخضراء والنجوم اللامعة، وحيث كان (الضابط) هو المهنة التي يتمناها الأطفال.. ينبغي أن لا يُضار العسكر في معاشهم حتى لا يهجر صغارهم المهنة ويطلب كبارهم الحكم تعويضاً عن عزة مفقودة.. ينبغي أن يؤمَنوا على سكنهم وعلاجهم وتعليم أبنائهم وتوفير معاشهم، وهذا ينبغي أن يدفع ثمنه السودانيون في مقابل أن يضع العسكر أرواحهم لحمايتهم.. هكذا هي الجيوش في أنحاء الدنيا، هذا وإلا حملوا السلاح الذي بأيديهم وأخذوا مطالبهم عنوة، وكم من الشرور في هذا العالم منبعها ضيق المعاش!لا شك أن أقصر سبل الردة عن الديمقراطية إلى القهر هو الجيش.. وهو إن لم ينقلب على الديمقراطية لحقارة أصابته منها، فإنه قد يفعل استجابة لغواية السياسيين الذين أعجزتهم لأواء المنافسة فلجأوا إلى القوة وليس من قوة سواه. لذلك، وحتى لا تؤتَى الحرية من قِبَل الجيش ينبغي أن يعاد إلى نفوس العسكر ذلك الفخر والاعتداد، فيُعظَّم دورهم وعملهم في ثقافة الناس، وتؤمَّن معاشاتهم حتى لا تذلهم الحاجة.• إيجابية القضاء: إذا كان الجيش هو أخطر وسيلة للانقلاب على الديمقراطية، فإن غياب العدالة هو أخطر أسباب الرغبة في تغيير الحكم، وأشد ما تكون الحاجة إلى العدالة البائنة المسفرة في سنوات الديمقراطية الأولى حيث تنفلت كل وحوش الرأي العام من معاقلها القديمة تبحث عن فرائس، سيسرف الإعلام في تناول القضايا العامة بالنقد والتشهير وسيختصم السياسيون فيما بينهم على جرعة الماء! سيذهل بعض الناس فضاء الحرية اللا متناهي الذي انفتح أمامهم فيركضون فيه بلا هدف.. في هذا المناخ سيتوجب على النظام العدلي أن يكون في أفضل حالاته وصمام الأمان سيكون القضاء.نذكّر أننا ربما نحتاج إلى سلبية العدالة في فترة الانتقال كمهر لانتقال سريع وقليل التكلفة، فإذا ما عبرت البلاد تلك المرحلة وبدأت عهداً من الحرية والديمقراطية أصبح لزاماً أن تنتقل العدالة من السلبية إلى الإيجابية وأن يقوم عليها قضاء حر مستقل وشديد الكفاءة.. عندما ينسحب الجيش من الحياة العامة بالسلبية المطلوبة في هذه المرحلة، سيصبح القضاء هو المرجع الوحيد للفصل في الخصومات العامة والخاصة ولن يكون ذلك بقوة السلاح كما كان أحياناً في السابق، بل بقوة المؤسسة والنظام القضائي وكفاءته، وهي مسؤولية جسيمة يمكن أن يكون ثمن التقصير عن أدائها فساد النظام الديمقراطي الوليد وزهد الناس فيه.يجدر بنا أولاً أن نهدم الخرافة التي تقول بالنزاهة الفطرية للقضاء.. لافتا للانتباه تلك الخرافة التي تسري في معظم الدول بأن مؤسساتها يمكن أن يتخللها الفساد ولكن قضاءها دائماً بخير.. لعل الأهمية البالغة للقضاء باعتباره المرجع الأخير للناس في اختلافاتهم تجعل من الاعتقاد في سلامته ضرورة سيكولوجية، ولكن علينا التأكيد أنها لا تعكس الواقع بالضرورة.. نزاهة القضاء ليست صفة ملازمة له بل هي مكتسبة واكتسابها يستدعي بذل الكثير من الجهد وربما أكثر للمحافظة عليها.. وقد أعيت الدول الديمقراطية وسائل (تنزيه) القضاء منهجياً من حيث صلاحيات القاضي أو كيفية اختياره.. فنجد مثلاً في بريطانيا أن القاضي الذي يفترض أن تقف أمامه السلطة السياسية في خصوماتها، موظف تعينه الحكومة نفسها ما قد يطعن في حياده، وفي أمريكا حيث يختار القضاة بالانتخاب نجد القاضي مطعون الحياد أمام داعمي حملته الانتخابية.. لا يوجد حسب علمي نظام قضائي (يضمن) نزاهة القاضي، ويبقى عنصر النزاهة الشخصية حاضراً باستمرار ما ينفي إمكانية إطلاق الثقة في القضاء.لاشك أن النظام الحالي قد دفع بكثير من منسوبيه إلى القضاء كعادته في تغذية مؤسسات الدولة بمنسوبيه لخدمة أغراضهم في الحكم.. ولكن المظالم التي أحدثها هذا النظام في الناس على كثرتها، كانت في غالب الأحيان – حسب علمي – بعيداً عن قاعات المحاكم.. ظل القضاء رغم انتساب كثير من أفراده إلى النظام الحاكم، وإلى حد كبير، نظيف اليد من مظالم النظام والتي تولت كبرها الأجهزة التنفيذية.. لا أقول هذا ارتداداً عن ما سبق أن أشرت إليه من خرافة نزاهة القضاء الفطرية، ولكنه واقع أعزوه لسببين: الأول أن القانون مقيِّد لأحكام القاضي، وتبقى المساحات التي يتحرك فيها القاضي برأيه مساحات محدودة، فإن أراد القاضي محاباة النظام فهي لن تتجاوز هذا الضيق. السبب الثاني هو – وكما في حالة الجيش – عراقة المؤسسة القضائية والفخر والاعتداد عند منسوبيها. فالانتماء لهذه المؤسسات يطغى أحياناً على الانتماءات الأخرى سواءً كانت حزبية أو عقدية أو غير ذلك، ويمنع محاباة القاضي لغيرها، الأمر الذي يعزّز مهنيته ويرفع من قدرها، هذا ولا أستثني بالطبع الورع الذي يكون عند بعض القضاة هو المحرك الأساسي لأحكامهم.سيكون التكلان كبيراً في فترة الديمقراطية الوليدة على تقاليد مؤسسة القضاء العريقة ورسوخ حالة الانتماء إليها والفخر بها لدى القضاة السودانيين. أرجو أن تستعيد كليات القانون في الجامعات تألقها القديم ليدخلها الأفذاذ لأن المسؤولية ستكون عظيمة ولن يقوى على حملها إلا صفوة من الناس.. كذلك وكما كان الحال بالنسبة للجيش يجب أن يعطى القضاة أولوية في تأمين معاشهم على حساب دافع الضرائب بالقدر الذي يعزز من رفعة القضاء وعلو كعبه واستغنائه عن غيره دون طغيان.خلاصة الأمر أن أفقنا السياسي سيعتمد على قدرتنا على تعزيز الديمقراطية متى وصلنا إليها، وهذا التعزيز بدوره يعتمد على مؤسستي الجيش والقضاء وقدرتهما على التكيّف مع الوضع السياسي بتحول الجيش من الإيجابية في الفترة الانتقالية إلى السلبية في ما بعدها، والعكس بالنسبة للقضاء.. وتعزيز الحس المهني لهاتين المؤسستين بالشكل الذي يسمو فوق تحيّزات السياسة.. هنالك بالطبع عوامل أخرى يمكن أن تسهم في تعزيز الديمقراطية كإصلاح الأحزاب السياسية والإعلام والتوعية الجماهيرية وغير ذلك مما تركنا ذكره لضيق المساحة....