11 سبتمبر 2025
تسجيلسبحان الله، قد يعيش البعض المعجب بكل ما هو غربي بين العرب طول عمره، وهو لا يكف عن الشكوى منهم: أجلاف.. متخلفون.. متعنطزون.. على الهبشة، أي أن الواحد منهم سريع الاشتعال والانفعال، ثم يذهب إلى عاصمة أوروبية مثلا، فيحس بالطمأنينة كلما أدرك أن حوله آلافا مؤلفة من العرب، فيجد نفسه منجذبا إليهم، وهم منجذبون إليه. بشاشة متبادلة: انت منهم، وهم منك. أشخاص لا يعرفونك يهتفون كلما مروا بك: يا هلا.. حي الله.. السلام عليكم.. منتهى المودة والذوق، وخلال زيارة للندن رأيت عربياً سرقت حافظة نقوده فجلس على الرصيف يبكي. توقف عنده شخصان، ثم خمسة، ثم عشرة، وأدخل أحدهم يده في جيبه وقدم له ورقة مالية، وحذا الآخرون حذوه، وخلال دقائق كان نحو اربعين عربياً مروا مصادفة بذلك المكان قد تبرعوا للرجل المنكوب حتى ارتفع صوته بالبكاء الذي يرطب القلب: شكرا يا جماعة.. هذا المبلغ اللي جمعتموه أكثر من اللي انسرق مني، وكان مشهداً رائعاً عندما عانق الرجل تلك العشرات ونال من البوسات مثل ما نال من النقود. على ذكر البوسات، سبق لي مرارا أن ناشدت اصدقائي الخليجيين عدم بوسي عند تبادل التحية معي، وأن يتذكروا دائما انني جعفر عباس، الذي لا يبوس ولا ينباس، ومع هذا لم تُكتب السلامة من البوسات الا بقدوم الفك المفترس كوفيد 19، رافعا لواء الكورونا، فصرت أندفع نحو زملائي القطريين في مكان العمل لأشبعهم بوسا على الخدود والخشوم، فيهربون طلبا للسلامة، وهكذا وقعت معهم معاهدات عدم اعتداء في عصر الكورونا وما بعدها. ثم كان ما كان في مدينة ديزني - باريس، عندما ذهبت إلى موظفة الاستقبال في الفندق لأسألها عن كيفية الوصول إلى قلب المدينة، فطفقت تبرطم بالفرنسية، وتردد بين الحين والآخر عبارات مثل «بوس تروا»، و»بوس ست»، قلت لها بالعربية: يا قليلة الحياء.. أنا مش بتاع حاجات زي دي.. أنا أبو الجعافر بن عباس الذي لا يبوس ولا ينباس، وتأتين أنت أيتها الفرنسية الملسوعة المزلوعة الكلكوعة لتعرضي على (بوس تروا). ثلاث بوسات، ثم، وبكل بجاحة ووقاحة تضاعفين العدد إلى (بوس ست) أي ست قبلات/ بوسات دفعة واحدة، كي يتسنى لك التباهي بأنك فزت بها من حفيد عنترة فارس بني عبس، وتزعمين أنك نلت ما لم تنله عبلة الخبلة من جده عنترة؟ ولحسن حظي فقد كانت معي بنتي التي تجيد الفرنسية، ولكنها خجولة، ولا تحب التعامل مع الغرباء، واستنجدت بها، بل وبكل صراحة أمرتها أن تهب لتدافع عن «شرف بابا»، وحكيت لها ما حصل فضحكت وقالت: ما تخاف يا أبوي، لن تبوس ولن تنباس، لأن (بوس) بالفرنسية تعني (باص / حافلة) وكانت تحدثك عن ركوب البوس رقم ثلاثة، ثم رقم ست أي سبعة وليس «ستة» كما ظننت. الاحكام المسبقة على الشعوب والأفراد توقع الإنسان في الحرج والخطأ. ففرنسا في الخيال العربي هي بلد العري والجنس والتبرج وهكذا أسأت الظن بفتاة كانت تريد مساعدتي، وفي مدينة ديزني في باريس، توجهت إلى الحمامات الرجالية، وفوجئت بسيدتين تقفان بداخلها، فظننت أنني أخطأت - ولي سوابق في هذا المجال بسبب تشتت الذهن وعدم التركيز - فانسحبت وأنا أحس بالحرج ودخلت إلى الحمامات (المقابلة) وهناك وجدت طابورا من النساء يبتسمن في وجهي، وفهمت من برطمتهن أنني أيضاً في الحمام الخطأ وخرجت وأنا في حجم السمسمة، ونظرت إلى لافتة الحمامات التي دخلتها في المرة الأولى، فوجدت أنها فعلاً رجالية، ولكن المرأتين كانتا لا تزالان تقفان أمام أحواض الغسيل هناك. كانتا عاملتي نظافة، ومع هذا لم أدخل تلك الحمامات: يا فرنسيين يا بتوع الحضارة، لماذا تكلفون نساء بتنظيف حمامات الرجال؟ ويا رجال أوروبا المتحضرة، كيف تدخلون حمامات تقف أمام أبوابها نساء مندمجات في الونسة؟.