15 سبتمبر 2025
تسجيلنعم كل الأنظار متجهة نحو حرب أوكرانيا ونحو التحليلات المختلفة للظالم والمظلوم فيها وطبعا السبب في عناية العالم بها هو أنها تجري في أوروبا القارة التي اعتقدنا أنها في مأمن أمين من الحروب منذ 1945 نهاية الحرب الأوروبية الكبرى التي سميناها خطأ بالعالمية وما هي بالعالمية! كل الأنظار متجهة إلى العاصمة (كييف) وتزايد التسليح الغربي للمقاومة الأوكرانية لكن هذا لا يمكن أن ينسينا مأساة الشعب الشيشاني المسلم الذي يتعرض منذ ثلث قرن الى حرب ذات حلقتين: الحلقة الأولى اعتقدنا أنها انتهت عام 1994 باستقلال جمهورية الشيشان المسلمة والحلقة الثانية بدأت عام 1998 بغزو روسي شامل لتلك الجمهورية بحجة بعض التفجيرات المريبة في موسكو! وغريب أن العالم أدار وجهه عن تلك المأساة ولم تحركه صور (جروزني) المهدمة تحت القنابل ولا قتل الابرياء ولا حرق المساجد ــ حتى نحن المسلمين انشغلنا عن تلك الفاجعة بقضايا اخرى أشد مرارة ولوعة كقضية فلسطين ــ لكن هذا لا يبرر السكوت عن اضطهاد شعب الشيشان في مناخ التحالف الاستراتيجي العالمي. والمسلمون لهم في الشيشان اخوة. وجاءت حادثة إغتيال الرئيس الأسبق للشيشان سنة 2004 لتذكر العالم بأن في الشيشان حرباً منسية. وقلنا لعل تلك الحادثة تفتح عيون الرأي العام العالمي على حقيقة المأساة الشيشانية بل لعلها فرصة متاحة لنجيب عن تطلعات شبابنا العربي والمسلم وهم يتساءلون عن أصل الشيشان وجذور المقاومة الشيشانية للغزو الروسي ونحن نعلم ان بعض المثقفين العرب انقطعت صلاتهم المعرفية بهذه الشعوب المسلمة التي جعلتنا ــ الاحداث ـ الدموية الاخيرة نتعرف اليها مثلما فعلنا مع الشعب البوسني ومع الشعب الكوسوفي. بل ان اغلب العرب لم يسمع عن هذه الشعوب من قبل وهو دليل على ضرورة اعادة النظر في مناهج الدول العربية في التربية والتعليم والاعلام والثقافة حتى لا تحفر الخنادق بين العرب وبين أمة اسلامية مترامية الاطراف يجهل بعضها بعضاً. وكذلك بالنسبة للشيشان فقد بدأنا نعرف هذا الشعب منذ العام 1993 حين هاجم الجيش الروسي مدنهم وقراهم وتم الانتصار المبين للشعب الشيشاني لأنه يقاوم محتلين لا تربطه بهم لا صلة دين ولا عرف ولا لغة ولا حضارة.. اللهم الا استكبار وهيمنة وتعويض روسيا عن انهيار امبراطوريتها القيصرية. وقد هبت بعض اقلام العلماء العرب تبحث عن اصل قضية الشيشان وصدرت بعض الكتب القيمة منذ العام 93 ومنها كتاب متميز للدكتور السيد محمد يونس الذي نشرته رابطة العالم الاسلامي في سلسلتها دعوة الحق ــ عام 1994 ــ وهو يستعرض تاريخ نشر الدعوة الاسلامية في عهد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه عام 18 هجري (639 ميلادي) حيث فتحت اذربيجان من بلاد القوقاز وبعد ترتيب امورها وتنظيم احوالها توجه الفتح الى ما وراءها من البلاد فاستقبلت بلاد الشيشان الفاتحين حيث كانت تعاني من الاستعمار البيزنطي الذي استعبدها وأكل خيراتها ونهب ثرواتها وإرهاب الكنيسة الارثوذكسية في محاولة منها لإخضاع اهل الشيشان لمذهبها. وقام المعلمون ببناء الجوامع والمدارس وتصدر العلماء العرب للتدريس بل توزع العلماء الشيشانيون في بلاد الاسلام طلبا للعلم. يقول عنها ياقوت الحموي في معجم البلدان: (الشاش) اقليم ما وراء النهرين (جيحون وسيجون) خرج منها (خلق) من العلماء والرواة والفصحاء. أهلها شافعية ويرجع ذلك الى أبي بكر محمد بن اسماعيل التفال الشاشي الذي فارق وطنه وتفقه وعاد اليه ونشر به المذهب الشافعي. هذا وتداول الاحتلال الروسي القيصري ثم السوفييتي الشيوعي على تفريغ الشيشان من سكانها فأصبح عددهم في التسعينيات من القرن الماضي لا يزيد على مليون ونصف المليون وأقام عدد في تركيا وعدد في الأردن وعدد في سوريا وعدد في داغستان. ونصّب الروس عليهم في (جروزني) ادارة قيصرية عرقية ثم ادارة سوفييتية عنصرية. يقول د. السيد محمد يونس: (ولما أشرقت أنوار الإسلام من مهد الإسلام مكة المكرمة انتشر شرقاً وغرباً وتوجهت الفتوحات الى بلاد القوقاز في القرن الأول الهجري وتوالت الفتوحات في الدولتين الأموية والعباسية الى ان انتشر الإسلام في كل القوقاز. وصارت بلاد الشيشان منذ أواخر العصر الأموي ولاية تتبع الدولة الإسلامية وفي العصر العباسي كانت أهم ولاية لها حيث كانت الدولة الإسلامية تعتمد على فضة الشيشان في صناعة العملة. وعندما قامت الدولة العثمانية عملت على نشر الإسلام وحضارته في بلاد الشيشان وتوسعت في بناء المدارس والجوامع لتكون منارة. يقول المؤرخان (ينجسني) و(كلكاجي) في كتابهما (المسلمون المنسيون في الاتحاد السوفييتي): (عرف الشاشان بقوة تمسكهم بعقيدتهم والذود عن حماها وعانوا في ذلك الأمرين من الروس من الاضطهاد الى القتل والتعذيب والتهجير والغريب ان اعدادا كبيرة من الروس الذي فرضتهم دولة موسكو على الشيشان اعتنقوا الاسلام وانضموا روحاً ووجداناً الى ابناء الشيشان واندمجوا في المجتمع ولم يعودوا الى مدنهم وقراهم. يقول د. السيد محمد يونس: (شتان بين ما يفعله الروس الطغاة من تدمير المدن وقتل المدنيين الابرياء وبين ما يراعيه المسلمون في حروبهم). هذا عن نكبة سنة 93 و94.. أما العدوان الحالي المقصود منه ابادة شعب الشيشان فأعظم هولاً وأفجع ضحايا وأكثر رعباً. لقد حورب الاسلام في الشيشان فكان عدد المساجد المسموح بها عام 1980 سبعة فقط. ويمضي الكاتب المؤرخ يعدد افضل علماء الشيشان وأئمته فيذكر تاريخ أبي بكر محمد بن علي بن اسماعيل الشيشاني. ويذكره ياقوت الحموي وابن الخطيب الاول في المعجم والثاني في الوفيات وهو صاحب كتاب اصول الفقه وكتاب محاسن الشريعة وكتاب شرح رسالة الشافعي وكتاب ادب القضاة. كما يذكر المؤرخ الامام ابي بكر محمد بن احمد بن الحسين الشاشاني الملقب بفخر الاسلام ومن مؤلفاته (كتاب حلية العلماء في معرفة مذاهب الفقهاء) وكتاب (المعتمد) وكتاب (الشافي). ومن العلماء كذلك الشيخ أحمد بن عبدالله بن محمد الشاشاني الذي درس الفقه ببغداد وكذلك الشيخ أبوالمحاسن بن يوسف الشاشاني الشاعر والراوية، والشيخ الحافظ أبوسعيد الهيثم الشاشاني وعشرات وعشرات غير هؤلاء الأعلام. وهذه جولة صغيرة في بلاد الحضارة الاسلامية السمحاء التي يدكها أعداء الأمة بدون رحمة ولأسباب واهية من التحالفات والتوازنات... في لعبة داخلية ودولية قذرة وقودها شعب مسلم له حضارة وله مجد وله علينا دين ولنا نحوه عرفان بالفضل وواجب النصرة والتأييد.