14 سبتمبر 2025
تسجيلإذا كنت من هواة التثاقف السياسي، ووجدت نفسك زائرا لقاهرة المعز لدين الله الفاطمي، فلا يفوتنك أن تغشى مقاهيها المكتظة الصاخبة، إذا كانت ظروفك الصحية تحتمل أعمدة الدخاخين المتصاعدة، وصيحات وصخب الرواد والنوادل. فهذه المقاهي والمطاعم الشعبية تعطيك نبض الشارع المصري السياسي، وتكشف لك عن وجدانياته المتدثرة بالصمت المخادع. كل متحدث في هذه المقاهي والمطاعم الشعبية يفترض أن جليسه لا يسمعه بما يكفي، فيظل "يزعق" فيه بأعلى الأصوات لكي يجعله يسمع. تخيل معي أن هذا الخليط الهائل من البشر المصريين وهو يزعق في وقت واحد في مساحة صغيرة، وهو خليط يعطيك إحساسا يقول لك إن الذين يعتمرون هذه المساحات الصغيرة المكتظة هم أناس بلا عمل يؤدونه، أو أنهم جميعا ليسوا في عجلة من أمرهم على أي شيء، لا يصيبك ضجر وأنت تجلس لساعات في المقهى، فالذهن الشعبي المتفتق يعطيك لحظة من حبور على مدار الدقائق والساعات التي تقضيها هناك، هذا الرجل المندس في معطفه كحبة الفستق، ينظر في الشاشة البلورية الكبيرة بتركيز لافت، يتابع ما تبثه القناة الفضائية التي تعرض، بالصوت والصورة، مشاهد من المآسي الإنسانية في ليبيا وسوريا والعراق. يصيح الحاج المنفلوطي بأعلى صوته مناديا صديقه مدحت الأسيوطي الجالس قريبا منه، يسأله مداعبا: بس بقت على مآسي الشوام وليبيا. أمال فين مآسي أم الدنيا يا خويا. يمكن الفلول عملوا تنظيف للمشاكل عشان سعادة المشير يمشي مرتاح. يرد مختار بنبرة أعلى: هو ليش الربيع بتاعنا ما وصلش، يمكن جاي بقطار أسيوط المنيل الغلبان، يصيح آخر: أنت بتسأل عن الربيع العربي عاوز منو إيه، يا خويا، عاوز حاجات كتيرة أوي، حاجة مديحة بتعيط كل يوم لأنه المصروف ما صار يكفى. حاجة مديحة عاوزة ربيع. وأنا عاوز ربيع عشان خاطر حاجة مديحة. أصلها دموع حاجة مديحة غالية عليّ. حقها عليّ، موش على الربيع العربي، ولا على ربيع أمريكا.. يصيح ستيني بابتسامة ساخرة: المقهى منور سياسيين، بس ما حدش نورنا ع ربيع أم الدنيا، كله تنوير عن العمايل المهببة في سوريا وليبيا، وأم الدنيا في إجازة، محمد الفيومي عنده تفسير مخالف: أصلوا المشير منتظر التنوير عشان ينورنا مظبوط. رواد مقاهي ومطاعم قاهرة المعز، من النظرة الأولى، يعطونك انطباعا أنهم لا في عير السياسة ولا في نفيرها، ولكنه انطباع خادع، هم، في حقيقتهم، سياسيون على الآخر. يضحك حاج مدحت ضحكة عالية، وينده على النادل: واحد شيشة ممتاز لعمك مفتاح الصعيدى، أصلو اليومين دول مفرفش سياسة أوي، قابض ع المشير.هذا الفيض الاجتماعي الفكة في الشارع المصري يغسل أدران النفس المرهقة بما لا يزيد عليه من الإرهاق، وهذا الوجد المكين الممراح في الشارع المصري هو أثمن من كنوز الملك الذهبي، توت عنخ آمون، لو تحافظ عليه الأجيال المصرية، وتعض عليه بالنواجذ، وتحفظه في مأمن من عاديات مجانين سيناء.