12 سبتمبر 2025

تسجيل

مائة يوم على الثورة

09 مايو 2011

مائة يوم بالتمام والكمال مضت على انبثاق ثورة الخامس والعشرين من يناير يوم الجمعة الفائت مؤكدة قدرة الشعب المصري على استعادة حيويته التي فقدها على مدى ثلاثين عاما من حكم شديد الاستبداد والعنفوان ضده في عهد مبارك فلم يكن بالإمكان الخروج من هذه السنوات العجاف إلا عبر هذه الثورة التي شكلت تحولا نوعيا في مسار التاريخ المصري الحديث منجزة بذلك أهم ثورة اعتمدت على التحرك الشعبي وفي صدارته شباب الوطن الذين خرجوا في عفوية منظمة إلى حد ما وتمكنوا في ثمانية عشر يوما من إسقاط النظام وتهيئة البلاد لامتلاك ناصية الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية وهي الشعارات التي رددتها جماهير الثورة مطالبة بالخلاص من القهر والإذلال والفقر والفساد الذي كاد يفرض سطوته على كل شيء في المحروسة وخلال المائة اليوم سعت الثورة خاصة بعد أن تولى رئاسة حكومتها رجل نابع من ميدان التحرير مركزها الرئيسي في مصر هو الدكتور عصام شرف بالتعاون مع المجلس الأعلى للقوات المسلحة إلى تحقيق جملة من التحولات المهمة في صدارتها تفكيك أسس ومحددات النظام السابق تمهيدا لإعادة بناء نظام جديد يتسق مع أهدافها وهو ما جسدته خطواتها باتجاه صياغة نسق دستوري مغاير أطلق عليه الإعلان بعد إجراء الاستفتاء على التعديلات التي تم إدخالها على الدستور السابق والتي تمثلت في تعديل شروط الترشيح لمنصب الرئاسة وتقليص الفترة الزمنية لتولي هذا المنصب الحساس بأربع سنوات على ألا تجدد إلا لفترة واحدة وإعادة الإشراف القضائي على العملية الانتخابية وغيرها من أسس أعادت الاعتبار لشفافية هذه العملية بعد أن أجهضها تماما زبانية النظام السابق على مدى العقود الثلاثة المنصرمة هذا أولا أما ثانيا فإن الثورة أطلقت حربها المقدسة ضد الفساد وأركانه والذي لم يكن أحد على دراية بحجمه ونوعيته التي طالت كل شيء تقريبا بالرغم مما كانت تكشف عنه وسائط إعلامية في مصر خلال السنوات السابقة بين فترة وأخرى وإن كانت رائحته منتشرة في أرجاء القطر إلى حد يزكم الأنوف لقد خدع الجميع في رموز كانت تحكم مصر إلى جانب مبارك والتي بدا أن أجندتها لم تكن خالصة لوجه الوطن وإنما كانت تنزع فقط للحصول على أكبر قدر من الثروة إلى جانب السلطة من خلال الحصول على أراضي الدولة بثمن بخس وبيعها بأسعار مضاعفة وكذلك الحصول على توكيلات الشركات الأجنبية مما أدى إلى تراكم الثروة في أيديهم على نحو قاد إلى بناء نوع من الطبقية الذي لم تشهده المحروسة في تاريخها تجاوز الحالة الإقطاعية التي شهدتها في ظل نظام أسرة محمد علي قبل ثورة الثالث والعشرين من يوليو 1952 بل لقد خدعنا في حسني مبارك نفسه والذي بدأ سنين حكمه الأولى بعد انتخابه رئيسا في 1981 بخطاب يتحدث عن محاربة الفساد والتزام الشفافية والعدالة واستخدامه مفردات من قبيل أن "الكفن ليس له جيوب" وحرصه على إجراء محاكمات لما اعتبرهم من أصحاب الثراء غير المشروع في عهد سلفه أنور السادات وغير ذلك من لمسات أحسنت آلته الإعلامية توظيفها خلال هذه السنوات ولكن مع دخوله فترته الرئاسية الثانية - رغم تصريحاته بأنه لا ينوي الاستمرار في الموقع الأول في مصر- بدت الصورة تأخذ ملامح مغايرة فقد ظهر ولعه بالملابس المصنعة في الخارج وتمسكه بالسلطة ثم دخول حرمه إلى دائرتها عبر بوابة الأنشطة الاجتماعية والتي سرعان ما أصبحت تمتلك سلطة موازية لمبارك وهو ما رصدته شخصيا خلال متابعتي لأنشطة الحزب الوطني والبرلمان بمجلسيه: الشعب والشورى خلال عقد الثمانينات من القرن الفائت قبل أن أتوجه للدوحة في سبتمبر من 1988 وتنقطع صلتي بهذه المؤسسات التي أسهمت بنصيب وافر من إفساد الواقع السياسي المصري بما في ذلك قطاع من العاملين بالصحف والإعلام بمختلف اتجاهاتهما ثالثا: إن إصرار ثوار يناير على محاكمة الرئيس السابق ونجليه ورموز نظامه يعكس حالة التضخم واتساع مساحة الإجرام تجاه الشعب ليس على صعيد الفساد فحسب وإنما على صعيد إفساد الحياة السياسية من خلال الاعتماد على التزوير في تشكيل المجالس البرلمانية والمحلية وغزل القوانين والتشريعات والتعديلات الدستورية على نحو يتناغم مع مشروع التوريث الذي كان يهدف إلى توصيل الابن جمال إلى السلطة خلفا لوالده وقد كشفت الوثائق عن أن شهر مايو الحالي كان هو الشهر الذي سيشهد انطلاقه بعد أن يعلن مبارك الأب رغبته في عدم الترشح للرئاسة في عيد مولده الذي يوافق الرابع من الشهر نفسه واللافت أن أسرارا كثيرة أخذت تتكشف عن أبعاد هذا المشروع الأخطبوطي الذي وظفت كل أجهزة السلطة المصرية خاصة الأجهزة الأمنية ووسائل الإعلام الحكومية والقطاعات المختلفة بالدولة لتنفيذه إلى الحد الذي كان يستعد فيه جمال مبارك للإقدام على انقلاب على المؤسسة العسكرية ذاتها من خلال الإيعاز لوالده بتعيين الفريق حمدي هيبة رئيس هيئة التصنيع الحربي والذي كان رئيسا سابقا لأركان القوات المسلحة وزيرا للدفاع بدلا من المشير حسين طنطاوي وأنس الفقي رئيسا لجهاز المخابرات بدلا من اللواء عمر سليمان وكلاهما كانا يشكلان عقبة أمام مشروع التوريث ووفقا لوثائق ويكليكس فإن المشير بالذات كان مناهضا بقوة لهذا المشروع ولعل ذلك يفسر سرعة الاختيارات التي أقدم عليها المشير وأعضاء المجلس الأعلى العسكري للقوات المسلحة انحيازا لثورة الشعب والتي رأوا فيها إجهاضا عمليا وجماهيريا لهذا المشروع رابعا: أعادت ثورة الخامس والعشرين مصر إلى مسارها القومي الصحيح ودورها الإقليمي الطبيعي بحكم البعد التاريخي وعبقرية موقعها وحجمها الديمغرافي وقوتها الناعمة والتي أهدرت بداية من تولي أنور السادات السلطة خلفا للزعيم الراحل جمال عبد الناصر ثم أجهز عليها حسني مبارك وتجلى ذلك في عودة الدوائر الثلاث للسياسة الخارجية للمحروسة إلى العمل بعد توقف أو جمود وهي الدائرة العربية ثم الإفريقية ثم الإسلامية ولعل إنجاز المصالحة الفلسطينية يشكل القطرة التي تسبق الغيث ومع ذلك فإن مهاما عدة ومتنوعة مازالت مطلوبة من الثورة وبإيقاع أسرع مما يتحقق على أرض الواقع في مقدمتها الانتهاء من بناء منومة أمنية تتوافق مع معادلة الحسم والعدل ضمن محددات احترام حقوق الإنسان تسعى إلى فرض هيبة الدولة وتنحاز إلى ما يسمى بالأمن الاجتماعي بعيدا عن الأمن السياسي والذي استغرق كل طاقة وموازنة المؤسسة الشرطية في مصر خلال الثلاثين عاما الماضية خاصة العقدين الأخيرين منها والتوجه إلى صياغة السياسات والبرامج العملية للعدالة الاجتماعية والمزيد من الانحياز للفقراء والسعي إلى التخلص من رموز النظام السابق خاصة الذين مارسوا الفساد والإفساد في الأرض والسعي بقوة إلى استعادة القدرات الذاتية لبناء مشروع للنهوض الاقتصادي والاجتماعي يعيد مصر إلى سيرتها الأولى عبر مخطط يتكئ إلى القطاع العام ولا يغفل القطاع الخاص الوطني ويتجنب مساوئ الخصخصة والرأسمالية المتوحشة التي طبقتها الحكومات المتعاقبة في زمن مبارك بالطبع المرء يدرك أن المرحلة الراهنة هي مرحلة انتقالية ولعل النهوض الحقيقي مرتقب له بعد أن تسلم القوات المسلحة الحكم لسلطة مدنية بعد إجراء الانتخابات البرلمانية التي ستجرى في سبتمبر المقبل ثم الانتخابات الرئاسية في نوفمبر القادم غير أن ذلك لا يعني التوقف عن الحركة الثورية النشطة التي تعيد مصر إلى عبقرية مكانها ومحورية دورها وقدرتها على الإبداع الحضاري كما كانت على مدى آلاف السنوات. [email protected]