15 سبتمبر 2025

تسجيل

الجرأة في الإصلاحات الكبرى سيدي الرئيس

09 فبراير 2016

سمعت الرئيس التونسي السيد الباجي قايد السبسي يقول في كلمة التهاني بالسنة الجديدة أن سنة 2016 ستكون سنة الجرأة في تحقيق الإصلاحات الكبرى فأسعدني هذا الحرص من أعلى هرم السلطة في وطني على مواجهة الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي المعقد بالجرأة الضرورية وهذه الجرأة هي الأداة التي يمكن أن ننقذ بها البلاد من التردي على إثر ثورة شعبية مشروعة طالب خلالها الشباب بالتشغيل والكرامة والحرية. نحن نعيش في بلادنا حملة تشكيك في منطلقات تلك الثورة البيضاء وحملة تبييض الاستبداد بدعوى أنه الضامن للأمن بينما أدركت الشعوب اليوم أن الإرهاب هو الابن الشرعي للاستبداد وأن ما كان يحسبه المواطن أمنا ما هو إلا صمت القبور وخوف المواطن من أجهزة القمع ومن الموت تحت التعذيب فالحرية (وهي المكسب الأول للثورة على الظلم) هي الضامنة للأمن الحقيقي القائم على حق الإنسان في الكرامة والتعبير والمشاركة في سن الخيارات وقدرته على المبادرة والرقي في مجتمع عادل متوازن سليم. أسعدني أن يتحدث الرئيس عن الجرأة لأن الجرأة هي التي افتقدناها منذ 14 يناير 2011 فتقلد المسؤوليات من هم في الأغلب غير مؤهلين لها لا لنقص في وطنيتهم بل أساسا لافتقادهم ثقافة الدولة. وأنا عندما تحملت بعض المسؤوليات الحزبية ما بعد الثورة كنت حريصا على الدعوة إلى استعادة ثقافة الدولة لمجتمعنا وترسيخ مؤسساتها وهذا هو الإصلاح الأول والأكبر لكني لاحظت أن انتخاب رئيس جمهورية واختيار حكومة ائتلاف حزبي منذ سنة لم يبلغ بنا درجة إعادة تأسيس الدولة التونسية العريقة الراسخة فقام جدل طويل مثلا حول تعيين الولاة (المحافظين) بتقاسم الأحزاب المشاركة في الحكم لهذه المناصب وهو ما يتناقض أولا مع دستور البلاد وثانيا مع منطق الدولة لأن الوالي ممثل لرئيس الدولة وهو الحامي لمصالح المجموعة فلا يعقل أن تكون غدا ولاية القيروان مثلا ندائية وولاية القصرين نهضوية وولاية سليانة أفاقية وهكذا دواليك! إن الوالي يختار في كل الدول المتقدمة في الديمقراطية على أساس عدم الانتماء لأي حزب وبمعيار الكفاءة الإدارية والترفع الأخلاقي لا غير. أما الأحزاب فلها دور ريادي في الولايات (المحافظات) من خلال المجالس الجهوية التي تقرر ما تراه صالحا لولاياتها عملا بمبدأ الانتخاب الشعبي الجهوي لهذه المجالس فيبقى الوالي هو الحكم والمرجع وهو رمز الدولة وعنوان حيادها. أما الخلل الثاني الذي أساء لثقافة الدولة فهو الجدل الذي أثير في بلادنا حول تركيبة المحكمة الدستورية أو مجلس الدولة وعوضا عن أن يتشكل من شخصيات محترمة تحملت في الماضي مسؤوليات عليا وأصبحت بالفعل شخصيات حكيمة نائية بنفسها عن الفضاء السياسي الراهن والمتحول (أمثال أحمد بن صالح وأحمد المستيري ومصطفى الفيلالي وغيرهم) و كذلك من أساتذة في القانون الدستوري يتمتعون بالخبرة في دستورية القوانين والبعد عن الانتماءات والحساسيات (أمثال قيس سعيد والصادق بلعيد وغيرهما) عوضا الدستورية عن قرارات جريئة من هذا الصنف سمعنا جدلا سلبيا بين الأحزاب حول تقاسم عضوية هذا الجهاز الدستوري الأساس مما سيفقده محتواه ويلتف على مهامه السامية. إن أول الإصلاحات التي تستدعي الجرأة هي هذه سيدي الرئيس لأنك المتحمل لأمانة الدولة فوق الأحزاب وفوق تنافسها وحساباتها الانتخابية الظرفية خاصة بعد ما شهده الوطن من شقاق طال حزب الأغلبية الذي أسسته أنت. أما الإصلاحات الكبرى الأخرى فهي تستدعي تشكيل لجان وطنية لمواجهتها واقتراح أقوم المسالك لتنفيذها وهي معروفة مثل إعادة الاعتبار للقطاع العام لمنع تغول رأس المال إذا ما توحش وإعادة الاعتبار للتوازن الأسري لمنع تفكك العائلة وإقرار العدل الضريبي والجبائي وترتيب أوضاع الجهات الحدودية بتصور إمكانية تنظيم فضاءات للتجارة الحرة الدافعة للضرائب وإعادة النظر كليا في قضية توريد السيارات بتحرير هذه القطاع وإثراء خزينة الدولة بضرائب عادلة تفرض على كل من يورد سيارة من الخارج لأن قانون (الإف سي إر) تجاوزه الزمن بعد نصف قرن وهو يرهن ثلث أعوان الديوانة لإدارته من دون أي مردود وأمامكم أيضا ضرورة ابتكار قانون الاستثمارات على أسس جديدة تجلب التنمية كما أن أهم إجراء هو تحويل وزارة أملاك الدولة إلى وزارة توزيع أملاك الدولة على الشباب المستعد لخدمة الأرض بكراسة شروط تضمن تخصيب الملايين من الهكتارات المهملة باسم الدولة فالدولة ليست إقطاعية. وأنا أقترح أن تشكل لجنة برئاسة السيد منصور معلي لإنجاز مشروعه الحكيم لحل معضلة التشغيل وتشكيل لجنة برئاسة الأستاذ قيس سعيد لتنفيذ برنامجه حول تفعيل المصالحة مع رجال الأعمال لتحميلهم أمانة التنمية في جهاتنا المهمشة. لنجرب سيدي الرئيس أن نغير (لوجيسيال) التنمية والسياسات الاقتصادية والاجتماعية في تونس لا الاكتفاء بتغيير الشاشة أو لوحة الحروف أو الفأرة لأن كمبيوتر البلاد تعطل حسب نتائج سبر الآراء وحسب تحليل ورد أخيرا في مجلة (فوريني أفارز) الأمريكية وهي من أكثر المجلات السياسية عمقا وموضوعية. إنك مؤهل لهذا المصير المنتظر لإنقاذ بلادك وهي أمانة في رقبتك. وسبق أن قلت لك عندما شرفتني باستقبالك لي في مارس 2011 في قصر الحكومة بالقصبة أن هذه الأمانة الثقيلة لا يحملها إلا من توافرت فيه الجرأة وذكرتك بالآية الكريمة ونزهتك عن أن تكون ظلوما جهولا لأنك من المعدن القوي الأصيل. (إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا).