14 سبتمبر 2025

تسجيل

مركزية الإنسان في الإصلاح والنهضة (5)

09 يناير 2015

googletag.display('div-gpt-ad-794208208682177705-3'); googletag.cmd.push(function() { googletag.display('div-gpt-ad-1462884583408-0'); }); إصلاح الإنسان.. إشكال الوعي من رحمة الله بالإنسانية أن وصفة النهضة والإصلاح ليست سراً حصرياً على فئة من الناس دون غيرهم، بل هي فكرة شائعة يعرفها كل الناس: العنصر الأهم للنهضة هو الإنسان، ومحاولات الالتفاف على هذا المسار باستخدام الثروات الطبيعية والعلاقات الاتكالية التي ذكرناها سابقاً هي من قبيل البحث عن الحلول السهلة وليس جهلاً بمركزية الإنسان. كذلك، فكون إصلاح الإنسان يعتمد أساساً على تمليكه الوعي والمعرفة أمر شائع ومعروف، ولكن الإشكال في كيفية تحقيقه.معلوم أن الشعوب التي تعيش في ظلام الجهل تبدأ أولى خطوات التنوير عندما يتهيأ لنخبة منها سانحة لتلقي العلوم والمعارف ثم العمل على نشر التنوير بين شعوبها فتتسع دائرة الوعي تدريجياً في دورة مستمرة من تلقي المعرفة ثم منحها حتى إذا حصل المجتمع على قدر كاف من الوعي بدأ حركة كلية نحو الأعلى تزداد وتيرتها بازدياد الوعي بين أفراد المجتمع. هذه هي الوصفة النظرية لنهضة الأمم، ولكن على الصعيد العملي فهناك عقبات ستعترض هذا المسار وأولى هذه العقبات هي النخبة نفسها التي يفترض بها أن ترود النهضة.مصلحة النخبة في كبت الوعيقبل بيان مصلحة النخبة في كبت الوعي ينبغي علينا تعريف النخبة، وهذا يكون من وجهين: الوجه الأول هو ما يمكن تسميته بالنخبة العليا، وهي تلك الفئة القليلة من الناس التي تتفوق على العامة في أي أمر من الأمور، وهي تقاس عادة كنسبة إلى العامة كأن نقول (أغنى 10% من المجتمع) أو (أكثر 5% تعليماً) أو ما شابه ذلك. هذه الفئة لا تحدد برقم معين ولا تستوجب مستوى معينا أو حدا أدنى من أي شكل. فمثلاً إذا كان شعب مكون بالكامل من الفقراء الذين لا يعيشون على أكثر من دولارين في اليوم فإن أعلى هؤلاء دخلاً هم النخبة الغنية رغم أنهم لا يعيشون على أكثر من دولارين في اليوم.الوجه الثاني لتعريف النخبة هو ما يمكن تسميته بالنخبة المعيارية، وهي أي مجموعة من الناس تستوفي معياراً معيناً بغض النظر عن نسبتها إلى باقي الناس، كأن نقول كل من يحمل درجة الدكتوراه هو من النخبة، فهؤلاء يمكن أن يكونوا عُشر الناس أو ثلثهم ليس مهماً، وإنما المهم استيفاء المعيار لكي يتم التصنيف ضمن النخبة. والذي يمنع أن يفوق الذين يستوفون المعيار غيرهم فتكون النخبة أكثر من العامة بما يناقض مفهوم النخبة نفسه، هو أن المعيار عادة ما يكون عالياً فلا يستوفيه إلا نخبة من الناس.يمكننا الآن أن نتصور المجتمع على أنه هرم كبير غالب أهله في القاعدة ويقلون بالتدريج كلما اتجهنا نحو القمة، ونزوع حركة الناس هو إلى أعلى نحو قمة الهرم باستمرار. هذا الهرم تتعدد فيه معايير مختلفة لتقييم الناس تقطعه أفقيا في شكل خطوط موازية للقاعدة، بعض هذه المعايير يحمل عدداً من الناس الذين يستوفونه، وكلما كثر عدد الناس على المعيار دفعوه بثقلهم نحو القاعدة، وكلما قل عدد المستوفين للمعيار، خفّ وزنه وصعد نحو القمة. فمثلاً سنجد أن معيار حملة البكالوريوس أو امتلاك ألف جنيه سيكون أقرب إلى القاعدة منه إلى القمة، بينما حملة الدكتوراه أو من يمتلكون مليون جنيه سيكون أقرب إلى القمة وأبعد من القاعدة لقلة عدد الناس المستوفين لهذا المعيار بالنسبة لعموم المجتمع.المعايير التي يسعى الناس إلى استيفائها والتقرب بها إلى قمة المجتمع هي المعايير التي يعترف بها المجتمع ويقدرها كالعلم والدين والمال. هذا يعني أن الذي يتميز على غيره في معيار غير معترف به في المجتمع لن يجد الرفعة الاجتماعية المنشودة، فالذي يتفوق على غيره في طول شاربه لن يصل إلى صفوة المجتمع رغم أنه إحصائياً فريد فيه ولكن طول الشارب ليس من المعايير المعتبرة في المجتمع. وليست كل المعايير المعتبرة في المجتمع هي بالضرورة معايير صحيحة، وهذا سيكثر في المجتمعات المتأخرة فربما يكون بعض المشعوذين من صفوة هذه المجتمعات المتخلفة بينما لا يكون علم الفيزياء معياراً للصعود، فيجد عالم الفيزياء نفسه مع العوام إلا أن يستخدم الفيزياء باعتبارها سحراً فيترقى عندئذ!يمكننا الآن أن نرى كيف يكون لبعض النخبة منفعة في كبت الوعي، فلو أمكن بعضهم أن يدفع الناس عن معياره دفعاً ليخفف من ثقل الناس عليه ويرتفع إلى أعلى لفعل. وكل من يجد نفسه على قمة المجتمع بسبب معيار خاطئ فلن يعمل على تصحيحه لئلا يهوي به في عموم الناس. وكل معيار خاطئ هو محتل لمكان معيار صحيح. وكل شخص في النخبة بسبب معيار خاطئ، هو محتل لموضع شخص في القاعدة.دعونا نضرب أمثلة واقعية لبيان الأمر أكثر. الملك على مملكة ما يكون قد صعد إلى قمة المجتمع معتمداً على معيار خاطئ، معيار الملك. بينما المعيار الصحيح هو معيار الاختيار الشعبي الحر، وحتى إن كان على قدر من الوعي وعلم أنه صعد على معيار خاطئ فلن يعمل – في الغالب – على تصحيح المعيار لأن ذلك سيذهب بملكه. شيخ الطريقة الصوفية وكل من صعد على معيار الإرث سيفعلون ذات الشيء. وعالم الدين لو تبين له خطأ مذهبه لربما سكت عليه حتى لا يسحب سلمه من تحت قدميه. وحتى الذين ارتقوا على معايير صحيحة، كحملة الدرجات العلمية أو رجال الأعمال، إذا عجزوا عن الارتقاء في مرحلة ما فسيسرهم أن لا يصل من كانوا تحتهم إليهم، فيحجب صاحب العلم علمه وصاحب الصنعة سر صنعته، وإن عجزوا بذلك عن منع ارتقاء الآخرين لربما عمدوا إلى تكسيرهم إن استطاعوا. باختصار، فإن كثرة الوعي تعني للكثيرين ذهاب التميّز، وهؤلاء يفضلون كلباً من الخواص على أسد من العوام، فما الذي سيخرج مجتمعاً كهذا من الجهل إلى الوعي؟.