10 نوفمبر 2025

تسجيل

"العيسى والفيتوري".. في قلب العاصفة

09 يناير 2014

لا تستطيع امرأة "حلوة" أن تقف أمام المرآة لكي تكمل زينتها إذا كان حريق مفزع ومروع يلتهم أثاث بيتها، ويكاد يقترب من أطراف ثوبها.. ولا يستطيع رجل أنيق أن يحتفظ بأناقته إذا كان مضطرا لأن يخوض في مستنقعات الشارع الذي يمشي فيه، وعليه في هذه الحالة البائسة أن يحتفظ بتوازنه حتى لا ينزلق في الأوحال.. ولا تستطيع الساحة الأدبية والثقافية العربية أن تتذكر الراحلين من الأعلام الكبار إذا كان الراحلون يرحلون، بينما أمواج السياسة المتقلبة تجبر الجميع أن يحاولوا النجاة بأنفسهم من تقلباتها وتشنجاتها، وخصوصا إذا كانت هذه التقلبات والتشنجات لا تتيح الفرصة لأحد منهم لكي يتذكر ما حوله ومن حوله، حيث تبدو الحركة مربكة مرتبكة، وحيث يتحول النظام- حتى لو كان قاسيا- إلى فوضى مدمرة، ولو قيل عنها إنها فوضى خلاقة، وقد يتحقق من بعدها ما تتمناه النفوس المشتاقة! هذا حقا ما أشعر به حين أفاجأ بأن أديبا كبيرا قد رحل عن عالمنا، دون أن يتحدث أحد عن الخسارة الفادحة النابعة من فقد مثل هذا الأديب الكبير، وربما تتفضل الجرائد اليومية بكتابة عدة سطور تنعى فيها هذا الذي رحل، فليس لدى من يكتبون وقت يضيعونه إلا في المناوشات والمشاحنات وصب مزيد من الزيت على النار التي ما تكاد تخمد إلا وتشتعل من جديد، أقول هذا والحسرة تتملكني بعد رحيل شاعرين عربيين كبيرين عن عالمنا، دون أن تكون هناك إشارات حقيقية جادة تجاه الخسارة الفادحة النابعة من فقد كل شاعر منهما، رغم أنهما كانا ملء السمع والبصر، وكانا نجمين ساطعين في سماء الأدب العربي المعاصر..هذان الشاعران العربيان الكبيران هما سليمان العيسى ومحمد الفيتوري، وقد رحل كل منهما في قلب العاصفة القاصفة التي تجتاح أرضنا العربية، دون أن تترك لأحد فرصة التقاط الأنفاس.لسليمان العيسى ومحمد الفيتوري عطاء شعري رائع، تحتضنه مجلدات الأعمال الشعرية لكل منهما، وقد أسهم كل منهما في إثراء الشعر العربي بما أبدعاه وخلفاه للأجيال العربية المقبلة، إذا كان لدى أبناء هذه الأجيال متسع من الوقت- فيما بعد- للقراءة وللتذوق واكتشاف ملامح الجمال الفني واستيعاب جوهر الروح العربية التي يحاول كثيرون من الآخرين أن يشوهوها، مثلما أساء إليها كثيرون منا نحن العرب.. وإذا كان كل منا يعتز ويتباهى بجواز سفره الذي ينتمي إلى هذه الدولة العربية أو تلك، فإن المبدعين العرب الحقيقيين والجادين يعتزون ويتباهون بأن ما يبدعونه لا يتوجه إلى أبناء الدول العربية التي ينتمون إليها وحدهم، وإنما يتوجه إلى كل أبناء العروبة في كل أرض "مشرقية" أو "مغاربية"، وهذا ما نجده متحققا- بأجمل صورة- في العطاء الشعري الذي أبدعه سليمان العيسى ومحمد الفيتوري، وبالطبع فإن لكل منهما شخصيته الفنية المستقلة وصوته الشعري الخاص، لكنهما يتقاربان ويتشابهان في الإحساس الحاد بالفقد، فقد ولد الأول ذات يوم من أيام سنة 1921 في قرية النعيرية إحدى قرى لواء الإسكندرون، وهو اللواء الذي ضمته تركيا إلى أراضيها فيما بعد، بينما ولد الثاني ذات يوم من أيام سنة1930 في الجنينة عاصمة دار مساليت على حدود السودان الغربية، ثم انتقل مع عائلته– وهو طفل صغير- إلى الإسكندرية في شمال مصر، وهكذا تجرع الطفلان مرارة فقد مكان الميلاد، وقد رحل الأول عن عالمنا يوم9 أغسطس سنة 2013 في دمشق، بعد أن كان مقيما في صنعاء على امتداد ما يزيد على خمس عشرة سنة، أما الثاني فقد رحل عن عالمنا يوم29 ديسمبر سنة 2013 بعد أن عاش سنوات من حياته في كل من مصر ولبنان وليبيا والمغرب، وكان والده الشيخ مفتاح رجب الفيتوري من المتصوفة الكبار، وقد تأثر الابن بطريقة الوالد في التعامل مع الحياة، وهذا ما يتجلى في ديوان "معزوفة" لدرويش متجول، وهو الديوان الذي يشتمل على قصيدة من أجمل القصائد الصوفية، بعنوان "ياقوت العرش".كنا- الصديق الجميل بابكر عيسى وأنا- نردد في سهراتنا قصيدة ياقوت العرش، وكان الفيتوري حين يزور الدوحة يسعد حقا حين نُسمعه أبياتها العذبة التي نحفظها عن ظهر قلب، وفي هذه القصيدة يقول الفيتوري: دنيا لا يملكها من يملكها أغنى أهليها سادتُها الفقراء الخاسرُ مَنْ لم يأخذْ منها ما تعطيه على استحياء والغافلُ من ظنَّ الأشياءَ هي الأشياء...أما سليمان العيسى، فإن أبناء جيلي- خلال سنوات المد القومي العربي- كانوا يرددون ما قاله وقتها بكل الصدق عن الزعيم الخالد جمال عبد الناصر: من المحيط الثائرِ إلى الخليج الهادرِ لبيك.. عبدَ الناصرِإذا كان الشاعران العربيان الكبيران سليمان العيسى ومحمد الفيتوري قد رحلا عن عالمنا، بينما العاصفة القاصفة التي تجتاح أرضنا العربية ما تزال تشغلنا وتؤرقنا وتسلب منا أرواح أحبابنا البسطاء الأبرياء، فإني أتمنى- من كل قلبي- أن يأتي اليوم الذي تحتفي فيه الساحة الأدبية العربية بعطاء كل منهما، لكن هذه الأمنية لن تتحقق إلا عندما يعود لأرضنا العربية الاستقرار الذي يتيح لها الازدهار.