13 سبتمبر 2025
تسجيلتحدثنا سابقا عن بعض المثقفين الذين يحاولون حماية ما يحاولون حمايته (أياً كان ذلك) بأن يبنون حول أنفسهم هالة من «الهيبة العلمية»، إن جاز التعبير، فينخدع بهم البسطاء من الناس ويجدون لهم وجاهة في غير موضعها وهذا في الحقيقة من أقوى الأدلة وأوضحها على هشاشة بعض مثقفينا حتى لو زعم أحدهم أن العامة (بلا تبصر ولا بصيرة) نعوذ بالله من هذا الغرور الأعمى. إنك عندما تبحر في التاريخ تجد الخاصة أو ما يطلق عليهم «الملأ» أو «سراة الناس» وأحدهم لا يأنف عن التبسط للعامة، فلا أبراج عاجية ولا فقاعات إعلامية ولا هالات فارغة ولا شيء من هذا الذي نجده من البعض في أيامنا هذه. انظر مثلا لأحاديث الأصمعي ونوادره مع الأعراب وكيف كان يتبسط معهم حتى برع أيّما براعة في اللغة العربية. ولو سألتني عزيزي القارئ، فسأقول إنما منَّ الله عليه بالعلم لتواضعه في المقام الأول برأيي الشخصي. انظر أيضا إلى عامر بن شراحيل الشعبي الذي اختاره الخليفة الأموي الراشد عمر بن عبد العزيز قاضيا - لعلمه وفضله وحدة ذكائه – انظر إليه كيف اشتهر في الناس بخفة نفسه وتواضعه هو الآخر، والحقيقة أن الأمثلة على تواضع العلماء والمثقفين لا تنقطع لكثرتها، سواء في ثقافتنا العربية أو في غيرها من الثقافات، ولن أثقل عليك عزيزي القارئ بسرد المزيد من الأمثلة التي يعجز مقالي المتواضع عن حصرها. إن من يحيطون أنفسهم بهالة جوفاء إنما يلجأون لهذه الحيلة المثيرة للشفقة بسبب خوفهم الشديد، بل ولا أبالغ إن قلت إنه بسبب رعبهم من انكشاف فراغهم الفكري للناس فيسقطوا من أعينهم، لذلك فهم يعتقدون أنه لا بد لهم من هذا التحصن «المحزن» والتشدد فيما لا حاجة للتشدد فيه مثل المبالغة في التعلق باقتباسات لبعض مشاهير الفلسفة في العصر الحديث في محاولة بائسة يائسة لإرسال رسالة للقارئ بأن هناك رابطا بينه وبين الفيلسوف المشهور، فتجد أحدهم دائم الاقتباس لهيغل مثلا أو نيتشه أو غيرهما من الفلاسفة برغم أن هيغل نفسه قال قبل موته «إنه لم يفهمه أحد»، وأما نيتشه فقد شوهد في آخر حياته يتكلم مع حصان في أحد شوارع تورينو الإيطالية ! أنا لا أقصد هنا الاستهانة بأي قلم أو أي فكر لأي كاتب ومفكر من أي خلفية ثقافية أو أي عصر، لكن يجب أن نبين للناس أن هذا التحصن والاحتياط المبالغ فيه من بعض أدعياء الثقافة ليس له أساس ولا أصل ولا يمتّ للثقافة بصلة، بل إنما هو مجرد انطباق عجيب لبيت حسان بن ثابت في هجاء أبي سفيان لما قال عنه «فأنت مجوّفٌ نَخِبٌ هواءُ»، وهو والله ما يخطر في ذهني كلما رأيت متقعرا متنطعا في كلامه، بل بلغ الضعف والهشاشة بأحدهم ممن شاخ سنه، وباخ فنّه، وشح علمه، وبح فهمه، أن اقتبس بكل جرأة - مضحكة – جزءًا من حوار لفيلم «ساحر اوز» عندما قال «أغمضي عينيك واضربي كعبيك ببعضهما ثلاث مرات وفكري بقوة (لا يكون المرء بخير إلا في وطنه)» ثم ذيّل اقتباسه المضحك هذا باسم الكاتب فيكتور فليمنغ، ولا أدري حقا هل انتهت الاقتباسات الجميلة في سائر الثقافات حتى نلجأ لمثل هذه الركاكة والبهرجة الزائفة لنبين للناس أننا مثقفون؟ لسنا بصدد الوصاية على عقول أحد يا سادة تماما مثلما لا نقبل الوصاية على عقولنا، لكننا ببساطة نقول لأنصاف المثقفين... من تواضع لله رفعه. تواضع تكن كالنجم لاح لناظرٍ على صفحات الماء وهو رفيع ولا تكن كالدخان يعلو بنفسه على طبقات الجو وهو وضيع [email protected]