18 سبتمبر 2025
تسجيلجليبيب هو رجل من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان لا يعرفه الكثير من أهل زمنه، ومن كان يعرفه منهم، لا يعرف أكثر من أنه جليبيب، ذلك الرجل الدميم الخِلقة، الضعيف الحال، الذي ليس له ذكر عريض، ولا طويل على ألسن الناس، بل هو يكاد يكون منسياً مجهولاً عندهم، وكذلك تعامل معه التاريخ، لولا ما كان من إنصاف الله له، ورحمته به، وليس على التاريخ تثريبٌ في ذلك، إذ هو يستمد مواضيعه وأحاديثه من الناس المؤرخين، ويعتمد في إثباتها أو نفيها على ذممهم، هو في أول الأمر وآخره، موكول إليهم إنْ صدقوا أو كذبوا، إن أصابوا أو أخطأوا، إن أحسنوا أو أساءوا. ولكن جليبيباً، كان له منزلة ومكانة عند رسول الله، عليه الصلاة والسلام، إذ كان مذكوراً على لسانه، محبوباً إلى قلبه، فنال بذلك شرفاً ومجداً وسؤدداً، في حياته وبعد مماته، يغبطه عليه كل نابهٍ شريف في قومه، فحسْبه ذلك، مما جعل التاريخ يدون اسمه في صفحاته، ويحفظ ذكره رغماً عن أنفه.كان في وجه جليبيب دَمامة تزوي عنه الأبصار، ولا تجعل له حظوة ولا قبولاً، عند من لا ينظرون في كل زمان ومكان، إلا إلى الظاهر، ويدَعون الباطن، ممن لا يعنيهم سوى حسن المظهر، ولا يبالون بقيمة المخبَر، ولو كان نفيساً غالياً، وما علموا أن الحسنَ والوسامةَ، ما كان في الخُلق والفعل، لا في الوجه والشكل، كما أنهم يحفِلون بما في جيب الرجل من مال، ويهملون ما في نفسه من خِلال، وكل هذا منهم قائم على الجهل والغفلة، اللذين عندهما تغيب موازين الحق والعدل، وتحل محلها مقاييسُ؛ ليس يصح بها معنى القياس، لا يمكن للعقل الصحيح أن يقيس بها، أو يتحاكمَ إليها، ولكن أكثرَ الناس لا يعلمون، فبالمظهر والمال وحسب، يجعلون للرجل شأناً وقيمة، لا لخُلُقِه وفضلِه.فإن كان جليبيب دميمَ الخَلق، فإنه لم يكن ذميم الخُلُق، وهذا وحده ما قام به عند رسول الله، ومنحه حبه وقربه، الذي كان في الدنيا، وسوف يكون له بإذن الله في الآخرة، مصداقاً للحديث الشريف: "إن مِن أحبِّكم إليّ وأقربِكم مني مجلساً يوم القيامة أحسنَكم أخلاقاً".يُرى من أثر حسن خلُقِه، سماحةُ نفسه، وسهولة طبعه، وسلامة صدره، ولينُ جانبه للناس، يبدو فيه بحق معنى الذلة على المؤمنين، والعزة على الكافرين، في أصدق مثال، وأوضح صورة؛ المعنى الذي وصف الله به عباده في القرآن، وهو سببٌ ودليل على المحبة المتبادلة بين الله تعالى وبينهم، كما قال سبحانه: "فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلةٍ على المؤمنين أعزة على الكافرين"، وهذه الذلة والعزة، يفسرها قول الله عز وجل: "محمدٌ رسول الله، والذين معه أشدّاء على الكفار رحماء بينهم"، نعم أولئك هم المؤمنون حقاً، ذوو الخلق الكريم السوي، الذين هم لإخوانهم رحمةً وعطفاً، ولأعدائهم بأساً وجفاءً.وكان سببُ حسن خلق جليبيب، آتياً من إيمان صحيح صادق، ويقين سليم ثابت، قد رسخ في قلبه، وتمكن من نفسه، تَميد دونه الرواسي الشامخات، وهو لا يتزعزع ولا يتزلزل، مستقرٌ استقرار الأصابع في راحة الكف، وذلك ما عرفه رسول الله منه، فبوّأه من أجلِه، ما سنعلم من منزلة، فيها كل الفضل والتَّجِلة.لقد كان من عطف النبي صلى الله عليه وسلم، على جليبيب، وحبِّه له، أن عرض عليه يوما التزويج، فما كان من جليبيب إلا أن ابتسم بمرارة، وقال: "إذن تجدني كاسداً يا رسول الله"، فرد عليه رسول الله، بكلام وصوت أنزل السكينة والطمأنينة في نفسه، وجرى في صدره جريان الماء العذب الفرات، على ظمأٍ وصَدى، وقال: "غيرَ أنك عند الله لست بكاسد".التقى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ذات يوم برجل من الأنصار، فحدثه الرسول قائلاً: "يا فلان، زوجني ابنتك"، فتهللت أسارير الرجل، حتى إنه من شدة فرحته تَلَجْلَج في جوابه، وقال: "نعم.. نعم!! يا رسول الله، كرامة ونُعمى عين"، فقال رسول الله: "إني لست أريدها لنفسي"، فخفت بريق وجه الرجل، وقال: فلمن يا رسول الله؟ قال: "لجليبيب"، فوجئ الرجل بهذا القول، فقال بصوت خفيضٍ والدهشة تعتريه: لجليبيب..؟ وسكت هنيهة، ثم قال: يا رسول الله، حتى أستأمرَ أمها وأشاورَها، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: "نعم إذن".فانطلق الرجل إلى امرأته، وهو لا يدري كيف يفاتحها بالخبر، ولا كيف يكون وقعُه عليها، ومن ثم ردُّها عليه، لكنه معتقدٌ ـ لِما كان يعلم من طبعها وفكرها ـ أن هذا الخبر لا يرضيها، إن لم يغضبها، فجاءها وذكر لها ما عنده من خبرٍ، وأدّاه إليها، بنفس الطريقة التي تلقّاه بها، فقال لها: إن رسول الله يخطب ابنتك. فذكرت الله وقالت: نعم.. نعم!! قرة عينٍ لي ولك، يا له من عظيم شرفٍ، وسعادةِ جَد. قال زوجها: إنه لا يريدها لنفسه. فقالت وقد زَوَت ما بين حاجبيها: واهاً لقولك.. فلمن يريدها إذن؟ قال: لجليبيب. فصاحت المرأة: لجليبيب، جليبيب!! وصكّت صدرها، وقالت: ماذا تقول يا رجل؟ أما وجد رسول الله إلا جليبيباً؟ أستغفر الله العظيم، لقد منعناها فلاناً وفلاناً ممن تعرف، ثم نأتي في آخر الأمر لنزوج ابنتنا من جليبيب، اسمعوا يا ناس واحكموا في خطْبنا هذا، لا حول ولا قوة إلا بالله.كانت الفتاة في سترها تسمع تحاور والديها، فقال الرجل لزوجته: على رِسْلك يا امرأة، سآتي رسول الله، وأخبره بما ارتأينا، ولا حرج علينا بإذن الله تعالى، بل سيكون لنا مخرجٌ حسن، لما نعلم من حِلم رسول الله، وسعة صدره، وطيب نفسه، وقبوله العذر أياً يكن، بل عفوه وصفحه عن الجاني، ورحمته به، فما ظنكِ بمن سواه، فلما قام الرجل، خرجت عليهما ابنتهما من خدرها، وقالت: بل على رِسلك أنت يا أبي، أتريدان أن تردّا على رسول الله أمره؟!! يا ويحنا، ثم يا ويحنا، إن كان قد رضيه لكم رسول الله فأنكحوه، والخيرة فيما اختاره الله ورسوله.عندما سمع والداها قولها هذا، كأنها به حلّت عن عقليهما عقالاً، كان يمنعهما التفكير والسداد، فقالا: صدقتِ وأيمُ الله. وجعل أبوها يقول: الحمد لله الذي أنطقكِ بالحكمة يا بُنية، والله إنا كنا عن رأيك هذا غافلين، وكذلك الذكرى تنفع المؤمنين.ثم ذهب أبوها إلى رسول الله وقال: إن كنت قد رضيت جليبيباً لنا، فقد رضيناه، فقال النبي، صلى الله عليه وسلم: "إني قد رضيته"، فتزوج جليبيب من تلك الفتاة التي رضيته بعلاً لها، حين علمت أن رسول الله هو من خطبها له، فكان جزاؤها من النبي عليه الصلاة والسلام، الذي ما كان ليُضِيعَ جزاءها، ولا لينسى الثواب على المعروف، أن دعا لها بهذا الدعاء العظيم، الذي فيه الخير العميم، والذي تهفو إليه القلوب، وتطمح إليه النفوس، فقال: "اللهم صُبَّ عليها الخير صباً صباً، ولا تجعل عيشها كدّاً كداً)، وقد رأت هي ورأى الناس عليهما أثر استجابة هذا الدعاء النبوي، فما رُئي بعد أن توفي جليبيب عنها، بيتُ ثيّبٍ بالمدينة أنفقَ من بيتها. أما ما كان من شأن جليبيب، من بعد زواجه، فهو كالآتي:خرج رسول الله، عليه الصلاة والسلام، ليومٍ من أيام الله، لقتال أعداء الإسلام، فبينا رسول الله في ذلك اليوم، قال لأصحابه: "هل تفقدون من أحدٍ؟" قالوا: لا يا رسول الله، إلا من قد علمنا فلانٌ وفلان وفلان. قال: "لكني أفقد جليبيباً، فاطلبوه في القتلى"، فوجدوه قتيلاً إلى جنب سبعة قد قتلهم، فقالوا: يا رسول الله، ها هو ذا إلى جنب سبعة قتلهم ثم قُتل. فقال رسول الله: "أقتل سبعة ثم قتلوه؟ هذا مني وأنا منه"، جعل يقولها مراراً، ثم طفق يحمله واضعاً إياه على ساعديه، ما له سريرٌ غيرُ ساعدي النبي عليه الصلاة والسلام، حتى وضعه في قبره، وبذلك طويت صفحة صحابي عاش مغموراً، ومات مشهوراً، قد ظفر في مماته أيَّ ظفرٍ، بشهادة الله، وبكرامة رسول الله، أشرف خلق الله، الذي حمله، وسار به، وقَبَرَه وهو عليه الصلاة والسلام يقول: "اللهم ارضَ عنه، فإنني راضٍ عنه".أيُّ شرفٍ هذا يا جليبيبُ أنالك إياه الرسول الحبيبُ،طِبتْ ميْتاً، كما طبت حيّا، كذا رَفَعَكَ الخُلقُ الرحيبُ.