14 سبتمبر 2025
تسجيللا شك أن مصطلح الإرهاب، كما تحدده المصطلحات السياسية، هو أسلوب من أساليب الصراع الدولي الذي يقع فيه ضحايا بصورة جزافية أو رمزية كهدف إيقاع أذى أو عنف فعال لطرف آخر، من دون أن يكون هدفا أسمى للعمل الإرهابي. لكن الإشكالية التي تسهم في غموض هذا المصطلح وجعله أكثر التباساً، هي عدم التفريق الدقيق بين الإرهاب كظاهرة عالمية، غير محدد بدولة أو بشعب أو بعقيدة، وبين كفاح الشعوب ونضالها لنيل حقوقها المشروعة في التحرير ومحاربة المحتل والمستعمر. وهذه بلا شك قضية محورية يجب أن توضع في مكانها الصحيح، وتنضبط وفق مقاييس دقيقة وثابتة بعيداً عن الأهواء والميول والاتجاهات الأيديولوجية واختلافها. فمصطلح الإرهاب يستخدم أحياناً بطريقة انتقائية وتلصق أحيانا على أعمال لا تندرج ضمن مفهوم التعريف المشار إليه آنفاً، وهذه مسألة تثير الارتياب في تعريفات بعض الدول للإرهاب ومنها الولايات المتحدة على وجه التحديد، ولا شك أن العمل الإرهابي في بعض أهدافه ـ كما يقول د/ منصور الزهراني: "يستهدف عادة تحقيق غايات سياسية، أو اقتصادية أو اجتماعية، وهو في ذلك يوجه إما إلى أشخاص أو إلى ممتلكات خاصة أو عامة، والإرهاب كما أنه عمل فردي يقوم به شخص أو مجموعة من الأشخاص، فإنه قد يكون سلوكاً حكومياً نظامياً وهو ما يسمى إرهاب دولة، بل وقد يجد أسسه ومبرراته القانونية في قوانين الدولة الداخلية، في هذا الإطار وبعد قيام الثورة الفرنسية في 1789، وجد الثوار أنه ليس هناك من بد من تبني الإرهاب كوسيلة ونظام مشروع للحكم لإخماد المتآمرين على الثورة، ومن ثم الوصول إلى الأهداف السياسية المرسومة سلفاً، كما وجد الإرهاب تربة خصبة لدى الشيوعيين، سواء قبل ثورة البلاشفة في روسيا (1917)، أو بعد تسلمهم زمام السلطة، حيث لجأوا إلى تطبيق "الإرهاب الثوري المنظم" الذي كان يعتبره لينين "وجهاً من وجوه الحرب يمكنه التوافق والانسجام مع مرحلة من مراحل المعركة"، ويستهدف، طبقاً لستالين "القضاء على العدو العقائدي المجرم خلقياً وعقائدياً وتاريخياً". وليس أقوى داعم للإرهاب مثل تجاهل أسبابه الكامنة والموضوعية لقيامه وانتشاره في المجتمعات الحديثة، وخاصة في عصر الثورة المعلوماتية والعولمة، ونتيجة للفوارق الاقتصادية والاجتماعية، فإن التطرف والإرهاب سوف يعشش ويقتات من هذه السلبيات التي تزداد بازدياد أنظمته العالمية الجائرة والمجحفة في تعاملها الاقتصادي وفق النظرية الدارونية البقاء للأقوى "بدل البقاء للأصلح"!صحيح أن الإرهاب لم ولن ينحصر في الجانب الاقتصادي البحت في المستقبل، وأسباب الفقر والبطالة، بل إن الإرهاب تتعدد أسبابه ومناحيه، لكن الجانب الاقتصادي في المرحلة المقبلة سيجلب الكثير من المشكلات في المجتمعات المعاصرة، ومنها الإرهاب الأيديولوجي الذي سيضرب ـ كما قلنا ـ على وتر الفقر والبطالة في ظل هذه التراكمات السلبية والمستعصية في ظل العولمة وأنظمتها التي لا تكترث كثيراً للعواطف والفوارق الاجتماعية.أيضاً من السلبيات التي تسهم في انتعاش الإرهاب قضية الازدواجية والمعايير في السياسة الدولية، والكيل بمكيالين عند التعاطي معها، والتي أصبحت ظاهرة تؤرق العالم، والشعور بالظلم إزاء بعض القضايا التي باتت تستعصي على الهضم والتقبل، مثل معاناة الشعب العراقي والكوارث الإنسانية التي يلاقيها هذا الشعب من هذا الحصار الظالم. فالتعاطي بالازدواجية في الكثير من القضايا، أثمر الكثير من الكراهية غير المبررة في بعض الأحيان، ومنها الإرهاب المرفوض الذي تعاني منه الإنسانية، لذلك فإن أفضل الخطوات لوقف هذا الإرهاب واستئصاله، هو البحث الجاد عن أسبابه وإيجاد المخارج المنطقية والعقلانية لتجفيف منابعه بالحكمة أولاً، ثم بالتعاطي العادل مع مسببات هذا الإرهاب. والذي يدعو إلى الأسف أن مصطلح الإرهاب لا يزال ورقة يتلاعب بها الكثيرون ويتقاذفون بها كالكرة فيما بينهم، وكل يوصم الآخر بالإرهاب وكل مشكلة داخلية يعانيها بلد ما، ترفع التهمة الجاهزة على البعض الآخر بالإرهاب، وبدلاً من اتخاذ الوسائل السلمية والقوانين المرعية، وحقوق الإنسان لحل هذه المشكلات ـ والتي تختلف من بلد إلى الآخر ـ فإن شعار الإرهاب بات الآن سيفاً مسلطاً بلا معايير دقيقة لتقييده، وهذه إشكالية ربما تساعد في ازدهار الإرهاب لا في استئصاله. ورغم أن الإرهاب قضية عالمية إلا أنه بقي خارج دائرة الاتفاق لجهة تعريفه، رغم ما تضمنته قواميس اللغة وكتابات الفقهاء من اجتهادات للتعبير عن الظاهرة، لكنها لم تفلح جميعها في وضع ضوابط ومعايير محددة للفصل بين الفعل الإرهابي وما سواه، الأمر الذي أدى حتى بأولئك المهتمين بدراسة هذه الظاهرة، إلى مواصلة بحوثهم ودراساتهم دون الاكتراث بتعريفها.وعدم الاتفاق على تعريف محدد للإرهاب نابع بالدرجة الأولى من تسييسه، ووضع الاعتبارات القانونية خارج الحسبان، رغم هويته القانونية في الأساس، وقد أدى ذلك بدوره إلى اختلاط الأوراق وتباعد المواقف، فلم يعد مستغرباً أن نشاهد حكومات، أو جماعات ترتكب حماقات وتقوم بأعمال الإبادة البشعة بحق الإنسان، باسم مكافحة الإرهاب، ولم يعد خافياً أن يستخدم الإرهاب ـ جسراً لتحقيق أهداف ومكاسب شخصية أو حزبية أو قومية أو إسلامية. فالقضاء على أسباب الإرهاب خطوة إيجابية لدحره وتقزيمه ولو بصورة متدرجة، وهو في اعتقادنا أفضل الأساليب لاستئصاله من جذوره، وهذا الإرهاب لا نختلف جميعاً على رفضه ونبذه بكل أنواعه وصنوفه ومبرراته، لكن الأسباب الكامنة لعلاجه مسألة هامة للقضاء على الإرهاب. من هذه الأسباب أن الكثير من المجتمعات في العالم تفتقر إلى الديمقراطية والتعددية السياسية وآلياتها في الاختيار الحر النزيه من خلال الانتخابات التشريعية، إلى جانب أن أحزمة الفقر وظروف الهجرة الكثيفة إلى المدن، وانتشار الأحياء العشوائية من أسباب انتشار التطرف الذي هو بلا شك محصلة أخيرة للإرهاب، كما أن عجز بعض السكان عن التكيف مع قيم المدينة الحديثة، وطريقة حياتها القائمة على المنفعة المادية البحتة، وافتقارها إلى الكثير من قيم المدن الصغيرة أسهم في الكثير من أسباب الاحتجاج والتطرف. هذه الأسباب اجتمعت مع أسباب أخرى وهي غياب العدالة، وازدواجية المعايير في القضايا السياسية، وغيرها من الأسباب المساهمة في بروز ظاهرة العنف والإرهاب، كظاهرة عالمية والتي تحتاج إلى التقييم والفهم والتعامل العادل.والمشكلة التي يجب طرحها أن الولايات المتحدة واجهت إرهاباً فظيعاً لم تكن تتوقعه بالصورة التي حدثت، وبدلاً من التروي والدراسة المتأنية لاتخاذ الرد على هذا الإرهاب المفاجئ، قامت بشن حرب على أفغانستان، لاحتضانها أسامة بن لادن وتنظيم القاعدة المتهم بهذه التفجيرات في 11 سبتمبر 2001م، ثم أكملت ذلك باحتلال العراق، بعد تبريرات أصبحت في ذمة التاريخ ومنها امتلاك النظام السابق. والغريب أن الولايات المتحدة لم تناقش بجدية قضية الكراهية التي تواجهها من غير الكثير من دول العالم في هذا العصر، فالكثير من أسباب الكراهية المرفوضة، ربما تزيد في معدلات الإرهاب وتناميه بصورة مضطرة، وهذا السلوك غير المنطقي عبر عنه (بروستر.ك.ديني) في كتابه "نظرة على السياسة الخارجية الأمريكية"، إن "من الأهمية بمكان أن يتوصل شعبنا إلى نوع من الفهم العام بدلاً من الاستجابة للعواطف والانحيازات، نحن نبعد كثيراً عن كل هذه الدول حتى نفهم المدلول الحقيقي. ولكن مستقبل العالم كله يعتمد على الحكم الصحيح، يعتمد على إدراك الشعب الأمريكي لأفضل ما يمكن القيام به، وما يجب القيام به".والسؤال الذي يحتاج إلى أجوبة صريحة من العالم كله: لماذا لا يتساوى إرهاب شارون مع إرهاب أسامة بن لادن المشتبه به في تفجيرات نيويورك وواشنطن بنفس الوقفة والحدة والصرامة؟فمن منهجية التعاطي المزدوج في مسألة الإرهاب تمثّل سابقة خطيرة على السلام الأمن والعدل، وإذا ما سكت العالم على الإرهاب بمعاييره ومقاييسه القائمة، فإن القضاء على الإرهاب سيكون كمن يحارب طواحين الهواء ـ كما فعلها دون كيشوت.