16 سبتمبر 2025
تسجيلتدور هذه الأيام أحداث غريبة عن أرض وطبيعة تونس في جبل الشعانبي أعلى قمة في البلاد ووجه الغرابة في هذه الأحداث أنها تقدم للرأي العام في بلادنا وخارجها صورا قادمة من جبال أفغانستان وضواحي قندهار لأنه لا عهد للتونسي بألغام متفجرة في وجوه رجال الأمن والجيش ولا عهد له كذلك بعصابات مجهولة مسلحة ومدربة تتخذ من الكهوف مكامن لها وتستعد على ما يبدو لشن عمليات تخريبية أو لارتكاب جرائم ضد من؟ ولمصلحة من؟ وكيف طلعت على هذا المجتمع الآمن الطيب دون سابق إنذار؟ وأنا على يقين مهما كانت التنديدات بأي شكل من أشكال الخروج عن القانون بأن هذه الحركات وليدة أرحام تونسية وخارجة من صلب مجتمع لم يتحصن من العنف ولم يدرك أن سياسات التهميش الاجتماعي والاقتصادي وخيارات الإقصاء وغلق باب الحوار وسن سبيل إرهاب الدولة على مدى ربع قرن في ظل ما كان يسمى بتجفيف المنابع الدينية في برامج التعليم والثقافة السطحية السائدة كان لابد أن يؤدي إلى تصحر أخلاقي وانعدام توازن أسري تساقطت علينا ثماره المرة بعد خلخلة مؤسسات الدولة لتعلن عن تشابه بين جبل الشعانبي وجبال تورا بورا وأن محافظة القصرين توشك أن تتحول إلى ممر خيبر. فالديكور لا يختلف بالمغارات والكهوف والسبل المرتفعة ولباس الشباب المجند وأشكالهم هي ذاتها وأنواع أسلحتهم وعتادهم وعبارات خطابهم هي نفسها لأننا بكل بساطة نعيش منذ ثلث قرن في عالم بلا حدود جعلت شباب تونس وشباب باكستان وشباب ليبيا وسوريا وأبناء الجيل الثالث من المقيمين المسلمين في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي يكرعون من منهل واحد عبر تلك الفضائيات الطائفية والحاشدة والمختصرة للتاريخ الإسلامي في الغزوات. ونحن لم نلمس فرقا بين الشابين أصيلي الشيشان اللذين فجرا قنابلهما في ماراثون بوسطن منذ أيام وبين الشباب التونسي الذي فجر ألغاما في وجوه جنودنا البواسل في جبل الشعانبي رغم تباعد المسافة واختلاف اللغة وتباين المجتمعات التي فرخت هؤلاء وأولئك. أما الخلل البنيوي الفوقي الذي قاد المجتمعات العربية والمسلمة إلى هذا النفق المسدود فهو فساد التعليم الذي لم يرتق للتربية وخلو برامجه من الشحنة التاريخية والفكرية والأخلاقية التي تؤسس نفس الإنسان على منظومة قيمة قبل أن تعلمه خبرة أو تلقنه صنعة. وتأتي بعد ذلك قوانين تنظيم المجتمع والأسرة التي سيستها الدول والأحزاب بمخاطبة الغرب بلغة الحداثة المزورة تقربا له وحفاظا على المواقع في السلطة فتحولت بعض المجتمعات بعمليات التغريب والتشويه إلى مسوخ من المجتمعات الغربية المسيحية وبعد أن كانت بعض المجتمعات ذكورية بامتياز أصبحت نسوية بامتياز وأهين الرجل في أسرته بدعوى تحرير المرأة ولم يعد أولاده يقدرونه بدعوى المساواة بينما هذه القوانين جعلت لغاية تحصين الأسرة وتحميل المرأة مسؤوليتها إلى جانب الرجل فحدث خلل عميق وحفر شرخ واسع في صلب الأسرة. وبصراحة فإن خروج كل النساء بلا استثناء وبلا داع حقيقي للعمل خارج البيت أحدث زعزعة في تربية الأطفال وتماسك العائلة بينما العقل يحتم ألا تخرج للعمل سوى المرأة التي تحتاج بالفعل إلى دخل وتعول أسرة أو لديها معرفة وخبرة لا غنى عنهما للمجتمع أما اعتبار عمل المرأة مجرد عنوان "تحرر" وهي خاسرة هي وعائلتها والمجتمع على كل الأصعدة فهو انحراف لا يليق ببلداننا التي تعاني من معضلات اجتماعية لم تعد خافية مثل المخدرات وارتفاع نسبة الطلاق وضياع الأجيال الصاعدة وتفشي البطالة وازدحام الشوارع والنقل والحط من قدر المرأة وكرامتها في دوامة مجتمع سريع التحولات متعدد المخاطر. من مصائب الدهر وتقلب الأيام أن نسجل بعد تحولات ما يسمى الربيع العربي انحرافات خطيرة تهدد لا فقط أمن بلداننا بل هويتها الحقيقية وتبدل وداعة أهلها عنفا ووفاق مواطنيها شراسة وفي هذه الأحداث التي تغير ملامح تونس ومصر وليبيا نقرأ إخلالات عميقة بالتوازن التاريخي الذي ساد قرونا مجتمعاتنا ونحت بصبر وأناة نماذج من التعايش السلمي بين المواطنين حين جمعهم حماس مقاومة المستعمر الدخيل ونخوة بناء الدولة الحديثة المستقلة والميل لحل المشاكل بالحوار. ولعل المعضلة التي تجمع بين مجتمعات البلدان العربية التي مرت بتجارب الانتفاضات والثورات هي تقلص دور الدولة في حماية الأنفس والأرزاق والأعراض بسبب الخلط الإيديولوجي بين الدولة والنظام والذي يجري في كل من ليبيا ومصر وتونس من جدل عقيم حول عزل وتحييد كبار موظفي الدولة في العهود السابقة دون ذنب اقترفوه ودون تحميلهم وزرا شخصيا ودون حكم قضائي يدينهم في فساد أو ظلم وهو عين الظلم يذكرنا بما انحرفت إليه الثورة الفرنسية لسنة 1789 حين شرع "الثوار" يقطعون رؤوس بعضهم البعض بأحكام عدالة انتقامية ليس فيها أي عدل. فالمعتصمون المسلحون الليبيون حول الوزارات ينادون بعزل من سموهم (كل من خدم النظام السابق) والسياسيون التونسيون الذين يريدون سن قانون ما سموه (تحصين الثورة) وجماعة الإخوان المصرية التي تلجأ للانتقام ممن تعتبرهم فلولا هؤلاء جميعا يسيئون لأوطانهم ويفتحون أبوابا مشرعة لردود الفعل وتفشي الحقد وتوسيع دوائر الضغينة عوض تضميد الجراح ولم الشمل وطي صفحات الماضي الأليمة. وأذكر أن من أرادتهم الظروف في مناصب السلطة منذ سنة 2011 لم يستمعوا لنصيحة البطل الحكيم نيلسون مانديلا الذي نبههم إلى أن دولة جنوب إفريقيا لم تحقق معجزات نهضتها إلا بالبناء على دولة قائمة والاعتماد على كوادر خدموها وعلى التسامح والمصالحة ورأب الصدع. فالذي يدور اليوم في جبل الشعانبي هو انحراف خطير لكنه نتيجة انحرافات خطيرة منذ ثلث قرن من تراكم الأخطاء وسوء التقدير. فتونس ومصر وليبيا وغدا سوريا ليست دار جهاد بل دار إصلاح ووفاق. وفقنا الله إلى ما يحبه ويرضاه.