19 سبتمبر 2025
تسجيلبصراحة وبدون مجاملات دبلوماسية، أقول لكم: لقد كانت لحظة مغادرة حضرة صاحب السمو أمير قطر لقاعة القمة أهم وأصدق وأنبل لحظات القمة، السبب البسيط والمنطقي هو أن أمير قطر عبر بهذه المغادرة عن جوهر الدبلوماسية القطرية بلا ضجيج وبدون ردة فعل شعبوية بل مع إرسال تحياته الأخوية لتونس، لأن مواقف دولة قطر منذ ثلث قرن لم تتغير بتغير التوازنات الدولية ولم تتلون بألوان اللحظة الراهنة ولم تتنكر لجملة من القيم والمبادئ الأخلاقية والسياسية، فالدوحة لم تنضم إلى جوقة صفقة القرن، لأن الصفقة مغشوشة وغايتها كما قال أبو مازن في افتتاح القمة تصفية قضية الشعب الفلسطيني نهائياً بتقديم التنازلات تلو التنازلات للمحتل الإسرائيلي والتخفي العربي الشائن وراء (ترامب) لإنجاز مراحل الصفقة الواحدة تلو الواحدة، فبعد بتر القدس الشريف من جسد الأمة الإسلامية مثل بعض القادة دور المندد بضم الجولان للمحتل وبتر الإقليم من سوريا والسيادة العربية ! نعم كانت مغادرة القاعة موقف شرف لرجل يدرك مدى المسؤولية التاريخية الملقاة على أكتاف العرب، فهو الذي دعم المقاومة الفلسطينية وأعاد إعمار غزة، وهو الذي رفض ما قبله بعض نظرائه من إلقاء وصمة الإرهاب على شرفاء غزة حماس والجهاد، في حين اعترف لهم الفصل التاسع من ميثاق الأمم المتحدة بشرعية المقاومة، لأن أرضهم محتلة بنص القانون الدولي ذاته لا باعتراف العرب، ورفض الشيخ تميم أيضاً أن يتعامل مع القوى العظمى من موقع قبول الإذلال والإهانة وحافظ حفظه الله على كبرياء دولته وكرامة شعبه، وبالطبع كما توقعنا تعرضت قطر للحصار الجائر عقابا لها منذ 5 يونيو 2017 إلى اليوم بل وأصبحت قطر أقوى وأصلب عودا وحافظت على الريادة واكتسبت مزيداً من المناعة في اقتصادها وبنيتها التحتية وإنتاجها الصناعي والغذائي، ورفضت الدبلوماسية القطرية ما عرض عليها من تغيير عدائها للظالم الإسرائيلي المحتل نحو عداء الشقيق التركي المسلم المسالم أو نحو الجار الإيراني مهما كانت مطامع هذا الجار لأنه جار أبدي ولابد أن نندد بانحرافاته لكن دون أن نتخذ منه عدواً لدوداً، كما رفضت قطر أن تسبح ضد تيار الشعوب العربية في ربيع الحريات ومقاومة الاستبداد، لأنها كانت حاضنة قناة الجزيرة منذ 1996 التي فتحت للعرب فتحا حضاريا بتفعيل مبدأ غريب عن العرب وهو مبدأ الرأي و الرأي الآخر، ومبدأ إتاحة حرية التعبير للمخالف والمعارض والغاضب وصاحب المشروع دون تمييز أو إقصاء، إن قطر حوصرت براً وبحراً وجواً من أجل تمكين الأمة من حكم نفسها بحرية وسيادة وكبرياء وما تزال على نفس النهج القويم لا تحني هامتها إلا لله عز وجل وهو ما "عكر صفو" غلاة العنصرية الجدد في الغرب وأزلامهم من عرب التذيل والرضا بالدون وأقض مضاجعهم، ثم بصراحة هل هذه هي القمة التي عرفناها نحن جيل السبعينيات حين كان الملك الصالح فيصل بن عبدالعزيز آل سعود رحمة الله عليه يضحي بالمصلحة العاجلة لمملكته من أجل نصرة الحقوق العربية وقطعه إمدادات النفط عن دول الغرب حتى تدرك تلك الشعوب أن مصالحها مهددة بسبب الانحياز للظلم والعدوان الإسرائيليين سنة 1973 وحين كان القادة اليمنيون والجزائريون والسوريون يشكلون جبهة الصمود والتصدي قبل أن تخرج مصر عن الصف العربي الموحد وقبل أن يلعب أنور السادات ورقة البيت الأبيض بقبول السلام المغشوش ثم لا تجني مصر منه شيئا سوى الضلال والتضليل وقبل أن يزج بالرئيس الفلسطيني أبو عمار في صفقة السلام المضروب منذ مدريد الى أوسلو إلى واشنطن والمصافحة التاريخية بينه وبين إسحاق رابين في حديقة البيت الأبيض في سبتمبر 94 أمام شهود هم الرئيس الأمريكي بيل كلينتون والملك المرحوم الحسين بن طلال، ودخلت منظمة التحرير في نفق التنازلات المهينة إلى أن اغتيل المتصافحان ياسرعرفات وإسحاق رابين على أيدي الغلاة الإسرائيليين أنفسهم ! أعتقد صادقاً اليوم أن حال العرب أسوأ مما كانت عليه في الستينيات وأن جامعة دولهم التي أسسها رئيس حكومة بريطانيا (أنتوني إيدن) عام 1945 انحرفت للمرة الثانية كانت المرة الأولى عام 1966 حين استخدمها عبد الناصر لتقسيم العرب الى تقدميين مزعومين ورجعيين مزعومين، وأطلق الجامعة بأمينها العام المصري عبد الخالق حسونة ضد السعودية والأردن وتونس والمغرب، فما كان من بورقيبة والملك فيصل إلا أنهما سعيا لإنشاء منظمة المؤتمر الإسلامي لتهميش جامعة العرب الناصرية ثم هذا هو الانحراف الخطير الثاني في قمة تونس وتونس براء منه يهدف مع الأمين العام المصري أبو الغيط إلى اتخاذ تركيا عدواً وهميا وهي التي نأمل أن يصل العرب الى درجة نموها وأمنها ورغد عيش أهلها ودفاع زعيمها أردوغان عن هوية المسلمين وحقوقهم ومنزلتهم في عالم اليوم، كنا نتمنى أن يهب العرب هبة رجل واحد ويستعيدوا المبادرة المصادرة كما قال رئيس تونس حين أكد أن مصير العرب لم يعد بأيدي العرب، لكن لم يحدث من المأمول شيء وكانت مغادرة القمة بأدب أفضل موقف خالص لله وللعروبة على الإطلاق.