17 سبتمبر 2025
تسجيلكما كان الموقف التركي من القضية الفلسطينية مثيرا ودراماتيكيا خاصة منذ الحرب العدوانية التي شنتها إسرائيل ضد قطاع غزة في نهاية العام 2008.. كذلك يبدو موقفها من الأزمة الحالية في ليبيا أكثر إثارة ودراماتيكية وإن كان في اتجاه مختلف. في القضية الفلسطينية لعبت تركيا دورا وصف بأنه الأكثر أهمية مقارنة بأدوار الدول الأخرى في منطقة الشرق الأوسط، والذي جاء مختلفا عن الموقف التركي التقليدي المحايد علنا والمناصر سراً لإسرائيل، بالنظر إلى الروابط الاستراتيجية التي ميزت علاقات البلدين طوال عقود خلت حتى وصول حزب العدالة والتنمية ذي الجذور الإسلامية إلى الحكم في العام 2002 حيث بدأت مرحلة جديدة تقوم على أساس التقارب مع الدول العربية والإسلامية بدرجة توازي عملية التباعد عن الدولة الإسرائيلية عبر محاولة فك تلك الروابط الاستراتيجية معها. لقد بدا الموقف التركي حازما حيال الحرب التي شنتها إسرائيل ضد قطاع غزة معلنة وقوفها التام إلى جانب أبناء القطاع ضد عمليات القتل التي استهدفت آلاف الأشخاص منهم بحجة محاولة إقصاء حكم حركة حماس عن القطاع. وشهدت العلاقات التركية الإسرائيلية توترات متصاعدة في تلك الفترة، زادت حدتها بعد الموقف الأشهر لرئيس الوزراء التركي الطيب أردوغان حينما غادر إحدى قاعات النقاش في مؤتمر دافوس على خلفية رفض إدارة القاعة إعطائه الفرصة كاملة للرد على أكاذيب الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريز حول دوافع حرب غزة، معلنا قبل مغادرته أن إسرائيل تمارس إرهاب الدولة.. وأنها دولة تقتل الأطفال. استمرت هذه التوترات التي طبعت علاقات البلدين حتى مايو من العام الماضي حينما وقع حادث السفينة مرمرة التركية التي كانت تقل مجموعة من الناشطين الذين يحملون مساعدات إنسانية متوجهين بها إلى قطاع غزة من أجل كسر الحصار الذي فرضته إسرائيل على القطاع منذ يونيو من العام 2006، موعد سيطرة حماس على القطاع، حيث قتل عدد من الناشطين جلهم من الأتراك. ترتب على هذا الحادث وصول العلاقات إلى الدرجات القصوى من التوتر والذي تمثل في سحب السفير التركي لدى إسرائيل واشتراط أنقرة لإعادة تطبيع العلاقات بين البلدين ثلاثة أمور أساسية، أولها تقديم اعتذار رسمي وثانيها تقديم تعويضات لأسر الضحايا، أما الشرط الثالث فتمثل في رفع الحصار عن قطاع غزة. وبطبيعة الحال لم تستجب إسرائيل سوى لشرط واحد هو تعويض أسر الضحايا. خلال هذه الفترة تحصلت تركيا من وراء هذه المواقف المتشددة من إسرائيل الكثير من المكاسب، ولعل أهمها الجماهيرية الجارفة التي أصبحت تتمتع بها تركيا ورئيس وزرائها داخل الدول العربية، حتى إن البعض كان يقول بأن رئيس الوزراء التركي لو ترشح في أية انتخابات تجري في أية دولة عربية فإنه سيفوز بالإجماع. كذلك كان هناك العديد من المكاسب المادية إلى جانب المكاسب الجماهيرية، ومنها توطيد وتوسيع العلاقات مع العديد من الدول العربية في شتى المجالات، خاصة في المجال الاقتصادي. وكان من أبرز هذه الدول، سوريا وليبيا ودول مجلس التعاون الخليجي. واستمر صعود نجم تركيا ورئيس وزرائها أردوغان حتى اندلاع الثورات العربية التي بدأت بتونس ثم مصر، التي كان لأردوغان موقف متميز منها، حينما دعا الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك إلى الاستماع لصوت الشعب والتنحي " لأننا كلنا فانون". لكن مع اندلاع الثورة الليبية وقعت المفاجأة.. حيث تغيرت نبرة رئيس الوزراء التركي واختفت لغة القيم والمبادئ التي توجه بها إلى الرئيس المصري.. وظهرت لغة جديدة.. هي لغة المصالح. فقد أعلن أردوغان منذ اللحظة الأولى أنه يقف إلى جانب الشرعية الليبية.. وحينما بدأت المشاهد المرعبة للقتل والدمار التي يمارسها الجيش الليبي ضد المدنيين، تظهر على شاشات التلفزة العربية والعالمية، وتعالت الأصوات الداعية لتدخل دولي لحماية هؤلاء المدنيين.. وجدنا رئيس الوزراء التركي يرفض أي تدخل دولي في ليبيا بحجة أن هذا ضد الشرعية، معتبرا أن الفكرة الداعية إلى فرض حظر جوي على ليبيا "غير مفيدة وتنطوي على مخاطر" وأن التدخل العسكري من قبل حلف شمال الأطلسي (الناتو) سيعطي مفاعيل عكسية.. وحينما أصدر مجلس الأمن قراره رقم 1973 القاضي بتشريع هذا التدخل.. أعلنت تركيا ضرورة التقيد بنص القرار وعدم مناصرة جهة على أخرى.. بل واستمرت في طرح المبادرات الساعية إلى تفادي لحظة انهيار نظام القذافي، وكان آخرها اقتراح أردوغان أن يقوم القذافي بتعيين "رئيس" يحظى بدعم الشعب!! صدم هذا الموقف التركي شعوب العالم العربي والإسلامي التي كانت تتوقع من تركيا موقفا مختلفا، على الأقل مشابها لموقفها خلال الثورة المصرية، إن لم يكن أكثر تقدما منه عبر المشاركة في عملية التدخل العسكري ضد النظام الليبي. لكن هذه الصدمة ربما تجد تفسيرها في القاعدة الذهبية التي تحكم علاقات الدول وهي أن "الدول ليست جمعيات خيرية".. بما يعني أن الدولة تصوغ سياساتها الخارجية على أساس مصالحها وليس على أساس مشاعر إنسانية قد تحكم الأفراد العاديين وليس الدول. تركيا حينما تحركت في القضية الفلسطينية، كانت تتحرك وفق مصالح الدولة التركية التي تغيرت كثيرا مع وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم، حيث أصبحت أولوياتها هي السعي للتوجه شرقا والاستفادة من التقدم الصناعي التركي في خلق أسواق جديدة في منطقة الشرق الأوسط الأقرب لها من الاتحاد الأوروبي الذي تبدوا أبوابه الموصدة عصية على الفتح رغم مرور عقود عديدة على طرقه من قبل الأتراك. هذه المصالح التي تحركت على أساسها الدولة التركية، لم تلحظها حركة الشعوب وهي ترى رئيس الوزراء التركي يصيح عاليا ضد الحرب الإسرائيلية على غزة وكذلك الأمر وهو يخرج مندفعا من منتدى دافوس.. والآن وهو يطالب بعدم التدخل في الشؤون الداخلية الليبية التي تربطه بها علاقات اقتصادية تبلغ مليارات الدولارات.. وربما من هنا جاءت الصدمة. بالتأكيد هذه الصدمة تعني أن تركيا خسرت الكثير مما استطاعت الحصول عليه خلال السنوات الماضية.. على الأقل خسرت مكانتها الجماهيرية بين الشعوب العربية والإسلامية.. كما أنها بالتأكيد سوف تخسر الكثير من مصالحها الاقتصادية في ليبيا مع انتهاء حكم القذافي الذي بات قريبا بدرجة لم ترها العين الخبيرة في الدولة التركية.. وتلك تمثل صدمة جديدة.