13 سبتمبر 2025
تسجيلرحم الله المفكر والمعلم الدكتور حسن الترابي، وجعل الجنة مثواه، وجزاه الله خيرا عن الأمة، فقد كان علما سودانيا وعربيا وإسلاميا كبيرا.تربطني بالدكتور الترابي، رحمه الله، علاقة قديمة تعود إلى بدايات عقد التسعينيات من القرن الماضي، زرته في بيته ومكتبه في الخرطوم، وسافرت معه إلى أطراف السودان البعيدة، وأكلنا العصيدة معه برفقة صحب كرام، والتقيته في الدوحة في مؤتمر من المؤتمرات.هذا الرجل لم يكن عاديا في يوم من الأيام، سواء اتفقت معه أو اختلفت، فلديه ما يكفي من المنطق والحجة لكي يدافع عن رأيه، دفاع يغلفه بابتسامة عريضة لا تفارق محياه أبدا، فهو يعي ما يقول وما يفعل تماما، ولا تصدر أقواله أو أفعاله اعتباطا أو صدفة، ولم يكن يوما في موضع المفعول به أو رد الفعل، فقد كان فاعلا دائما، ولأنه كذلك، ولأن الحجة كانت تعوز خصومه في السلطة، كان الحل الأسهل بالنسبة إليهم هو زجه في السجن، لأن أي مناظرة علنية معه تعني انحياز الناس إلى جانبه، وهو ما لا تريده السلطة أبدا.البعض يذهب في خصومته إلى الحد الأقصى، دون أن يتحاور معه أو يسمع رأيه، ولأن الدكتور الترابي كان عملاقا فكريا ومفكرا كبيرا كان لديه آراء غريبة يمقتها الفكر المحافظ، أو التقليديون من البشر، لكنهم مع هذا كانوا يخافون مواجهته لمناقشة الأفكار التي يرفضونها، هذا لا يعني أنني أتفق معه في كل ما ذهب إليه، فهناك عدد من آرائه أعارضها، وهناك مواقف أتخذها لا أقبلها أيضا، ولكن هذا الرأي لا يقلل من قيمته أبدا.قلت له ذات يوم: يا دكتور لا تثق بالعسكر، فالعسكر إذا دخلوا السياسة يصعب التخلص منهم.. أذكر أنني قلت له هذا الرأي عام 93 أو بعدها بعام، ولم يعلق.. التقينا بعدها بسنوات فذكرته بما سبق وقلت له فرد علي: أنت على حق. هذا المفكر العملاق كان متواضعا للغاية، تشعر وأنت معه بالسهولة واليسر، كان نهرا هادئا تسيل ماؤه الهوينا رقراقا، حلو المعشر واللسان، على الطريقة السودانية التقليدية التي لا تعرف الفجور في الخصومة، وأهل السودان الذين عرفتهم من هذا النوع من البشر.لم يكن الدكتور الترابي رقما عابرا في الحياة السياسية والفكرية والثقافية والدينية العربية والإسلامية، فلقد كان الرقم المرجعي، وكان وتدا تلف حوله الأفكار، وكان، رحمه الله، مؤثرا في السياسة والحكم والسلطة والمعارضة ورجال الأعمال والاقتصاد، استطاع أن يصنع حزبا كبيرا يناطح الأحزاب السودانية التقليدية المبنية على أسس دينية تصوفية، وعمل على إعادة هندسة المجتمع السوداني، لكنه لم ينجح في ذلك إلا جزئيا، فالظروف أقوى منه وأقوى من كل المفكرين والمصلحين.كان بإمكانه أن يكون "مرشدا روحيا ودينيا" وأن يتحول إلى "مرجعية دينية"، لكنه اختار أن يكون سياسيا وأن يشارك في الحكم والسلطة وأن يدخل في دهاليز السياسة، لأنه كان يهوى الواقعية الإنسانية ولا يرغب بالاختباء خلف الدين من أجل مكاسب دنيوية.رحم الله الدكتور الشيخ حسن الترابي، فلقد أعطى السودان والعرب والمسلمين الكثير من الفكر والتجارب، ومهما اختلفنا عليه، فإن الجميع يتفقون على الإقرار بريادته وقدرته على معاكسة التيار الثقافي والديني السائد.