11 سبتمبر 2025
تسجيلسأحدثكم عن البيوت، بصفة أن المدن هي أمهات البيوت، والُمدن الولود لها أبناء كثر تعطي من عراقتها وموروثها لهم الشيء الكثير. هناك بيوت أصدقاء لنا، وبيوت أغراب، وهناك بيوت مغلقة تنتظر أصحابها، وهناك بيوت مفتوحة لا تنتظر أحداً، بيوت الغربة والمنافي.. البيت يعني أبي وأمي وإخوتي وأولادي، والحبق والورد والأشجار، والذكريات والحنين، وكتبي وأوراقي ورؤاي، أحب كل شيء فيه، إلا المطبخ، لأنه يعتقل وقتي، وأنا أتآمر عليه مراراً وتكراراً، فيعتقلني تماماً ككل الديكتاتوريات التي تعتقل المبدع وتضعه تحت خط الخبز خوفاً من عقله، علماً بأنني أعيش في بيت من الشعر منذ ولدتني أمي وملّحت جلدي الطريّ فوجدتني لعشيرة الأشواق بتُّ أنتمي وقصائد عطشى تُحمحم في دمي. لا يعرف قيمة البيت إلّا من يسافر أو يُهجّر قسراً فيفقد بيته ووطنه، فالبيت هو نقطة الجاذبية المتفرّدة التي تُعيدك إليها أنّى رحلت، كل زاوية لي فيه لمسة من روحي وأنا لا أكتب بسواها، أستمتع بزواياه كما أستمتع بشحنات قصائدي وكلماتها، الذكريات هي المنطقة الشاعرية الخصبة، ولا توجد ذكريات بغير أمكنة، لذلك هي من ينصب خيمة القصيدة بأوتاد المكان. الأماكن والعطر تحجز في نفس المبدع السلاسل الفضية لمطر الأماسي الذي يفوّح التراب ويرويه، له مفعول سحري على النسيج الإبداعي، لكن كل أماكن الله الواسعة تعيدك إلى نقطة الجاذبية الأولى، إلى بيت أسس خيالك وحملته على ظهرك بهذه الصدَفة المسحورة، يحميك في الزمن من عاديات الوقت، ويُرجعك متى شاء إلى أدق تفاصيله وأنت تستحضر بُعدك وتُراسل قربك على شاشة من حنين. يقول الشاعر التونسي فتحي النصري: لي بيت غير هذا البيت- ألفيه إذا جنّ الظلام- هو بيت آخر غير الذي ألفته- لا يتبدّى لي إلاّ في المنام- غير أني إذ أوافيه- وأمضي في نواحيه- أرى مأوى أليفاً- وأراني فيه مثل ماء- إذ ينساب الماء خفيفاً-هو بيت آخر- غير الذي أعرفه- بعضه ضوء- وظلٌّ بعضه- لكنه دانٍ حميم - كلما طوّفت فيه - خلتني مغترباً- آب إلى الحي القديم.