01 أكتوبر 2025
تسجيلطالما تجول الفرسان النبلاء (التروبادور) في جنوب فرنسا وشمال إسبانيا في القرون الوسطى، متغنين بالشعر العاطفي الذي يناجي المرأة المحبوبة ويمجدها ويعلن لها الفارس التروبادوري من خلال شعره استعداده للموت من أجل الحصول على نظرة منها أو لفتة أو منديل، فالشعر العاطفي للتروبادور والذي تميز بعذريته وعفته التي تجعلنا نتذكر مناجاة قيس بن الملوح لليلى أو جميل بن معمر لبثينة، هذا الشعر الذي انتشر بين القرن الحادي عشر والثالث عشر الميلادي في جنوب فرنسا (مقاطعة البروفانس) وشمال إسبانيا ثم في إيطاليا وفيما بعد في المانيا وإنجلترا، كأول شعر ينظم باللغات الأوربية المحلية وليس باللغة اللاتينية، ومثّل ثورة ثقافية كبرى في أوربا القرون الوسطى، حيث ابتكر التروبادور شكلاً جديداً في الحب الفروسي الذي جعلوا منه جزءاً لا يتجزأ من الفروسية، حيث لا حب فروسي من دون الشعر، فهنا العلاقة الجدلية ذات الأوجه الثلاثة والتي صنعت ظاهرة شعر الفرسان التروبادور وهي، الحب والشعر والفروسية. والتروبادور بأشعارهم محلية اللغة؛ نظموا أول شعر تمرد على اللغة اللاتينية المقدسة لغة الدين والأدب في أوربا القرون الوسطى. وقد التزم التروبادور بأشعارهم بقافية، بينما لم تُعرف القافية في اللغات الأوربية قبل التروبادور، والشاعر مع التروبادور أصبح وجوده حقيقة فهو رجل يمشي ويعيش بين الناس، ولم يعد أسطورة يتناقلونها ولا يشاهدونها كما كان شعراء الإغريق والرومان. ومع التروبادور تحول العشق في أوربا القرون الوسطى إلى إحساس جميل يسعد الرجل ويشقى ويتفاخر به، بينما اُعتبر قبل التروبادور مرضاً وداءً خطيراً ينفر منه المجتمع الأوربي المسيحي، وطالما بحث الأطباء عن طريقة للقضاء على هذا المرض. ويُعد التعرف على المرأة المحبوبة هدف الشاعر التروبادور وكلما كثرت العوائق أمام الوصول إليها (مثل زوج أو أب قاسٍ أو عفة المرأة الصارمة) كلما زاد الحب تأججاً ولهيباً، وقد تناولت أشعار التروبادور بالإضافة للحب الرثاء والتغني بعودة الربيع ومديح السيدة مريم ومواضيع أخرى متنوعة. ويجمع الكثير من الباحثين العرب والأوربيين على وضوح التأثير العربي في شعر التروبادور، حيث يعود أصل الكلمة (التروبادور) إلى كلمة طرب، أي غناء كما يطلق عليه في الأندلس، وأُضيفت لها الكلمة اللاتينية التي تشكل اسم الفاعل، فأصبحت الكلمة تعني المغني، ويرى بعض الباحثون أن كلمة تروبادور ماهي إلا تحريف لـ (دور الطرب) مع تقديم الصفة على الموصوف كما يحدث عادة في اللغات اللاتينية. ويبدو تأثير الموشحات الأندلسية وقصائد الزجل التي كانت شائعة في العصر الأندلسي واضحاً في شعر التروبادور، حيث كانوا يقيمون فيما بينهم ما يشبه السجال الهجائي القريب من حلقات الزجل في الشعر العربي الشعبي، ويعتمد شعراء التروبادور في غناء قصائدهم على الغناء المنفرد مع مرافقة الغناء بالعزف على آلة موسيقية وترية. وفي هذا يقول الباحث التاريخي الفرنسي ميشيل فيهير: ابتكر التروبادور طريقتهم وأسلوبهم لبلوغ منتهى الحب الفروسي مازجين بين مفهوم الحب الفروسي الذي عرفه فرسان بريتانيا الفرنسية وتميز به الأرسطقراطيون آنذاك، والحب الصوفي الذي عرفه الشعراء العرب الذين عاشوا في الأندلس. ويقول المؤرخ الفرنسي الكبير (هنري مارو): إن التأثير العربي على حضارة الشعوب الرومانية لم يقف فقط عند حد الفنون الجميلة التي كان التأثر فيها واضحاً، وإنما امتدّ كذلك إلى الموسيقى والشعر.