11 سبتمبر 2025

تسجيل

أنتايوس وسرّ الأرض في غزة

08 فبراير 2024

للأساطير في التاريخ معانٍ أبعد من أحداثها. من قرأ الأساطير اليونانية أو المصرية القديمة أو أساطير بابل أو غيرها يستمتع بالأحداث الفارقة للعادة، ومن يتعمق فيها قليلا يجد أن لها معاني عابرة للزمن. كتبت يوما هنا عن سر أخيل الضائع، وكيف كان مُقدرا له حين وضعته أمه طفلا في نهر الخلود، أن لا يلمس الماء كعبيه اللذين تمسكه منهما، فصارت له نقطة ضعف، وهكذا لكل إنسان نقطة ضعف مهما بدا عليه من قوة. هناك نقط ضعف فردية للناس جميعا، وهي العمر والصحة، فمع التقدم في العمر يبدأ جسم الإنسان في خذلانه ويتهيأ للرحيل. هنا لا يحميه المال ولا البنون ولا سطوة القوة. اليوم أنا الذي لا تغيب عني غزة وما يحدث فيها من دمار ومذابح جماعية، تقفز إلى ذهني أسطورة «أنتايوس» اليوناني ابن «جايا» ربَّة الأرض. لم يكن إلها من آلهة الإغريق لكنه كان ممن يطلقون عليهم اسم العماليق، أي أنصاف الآلهة. يقولون إنه كان في بلاد المغرب أو ليبيا وأن له قبرا في طنجة والحقيقة أنه أسطورة في الحياة والموت. أنتايوس كان يقف حارسا على المدينة يمنع دخول الغرباء إليها، وكان يستطيع قتل كل غريب، وحين يشعر بالضعف يحمل التراب من الأرض التي هي أمه «جايا» ينثره على نفسه فتعود إليه القوة ولا ينهزم في معركة. ارتباطه بالأرض كان مصدر قوته. أبسط تجليات قوة الأرض تراها في مباريات كرة القدم، ففرصة أن ينهزم فريق على أرضه دائما أقل، ويقال دائما الأرض تلعب مع أصحابها. رحلات العودة إلى الأوطان شغلت روايات عظيمة في العالم، وشغلت أفلاما رائعة، حتى فيلم مثل «إي تي» الذي أخرجه ستيفن سبيلبرج عام 1982 عن حكاية من الخيال العلمي ينزل فيه كائن فضائي يجد كل الحفاوة من الأطفال والكبار، لكنه في النهاية يبكي ويقول «هوم» أي البيت.. أي الوطن.. فيطلقون سراحه. لقد استطاع هرقل في أسطورة أنتايوس القضاء عليه حين قابله وصارعه، فحمله عن الأرض مصدر قوته، فتبعثر ترابا عليها وانتهت الحكاية. ما يحدث في غزة الآن من تدمير وحصار في أبشع صوره جعل أهلها لا يتركونها ويصرون عليها، فهي الوطن وهي الأرض التي عاشوا عليها وأجدادهم آلاف السنين، بينما كان اليهود يعيشون في المنافي، ويبتدعون القصص الخرافية عن القدس التي لا يوجد شاهد واحد على أي قصة منها، رغم تقدم علوم البحث والآثار. كل ما يحدث لأهل غزة من حصار بالتواطؤ مع العدو، أو الصمت، لم يجعل أهل غزة يدقون أبواب الخروج. هي حالات إنسانية للعلاج لا تتم كلها، لكن أن يتركوا أرضهم فلن يحدث، وما أكثر ما أعلنوا ذلك. من يتركون أرضهم الآن هم الصهاينة حملة الجوازات المزدوجة لهم، من الكيان الصهيوني، ومن البلاد التي جاءوا منها. انتهى زمن هجرة العرب وصارت الأرض اليباب هي الوطن، فمن يريد علامة على حب الوطن أكثر من البقاء في الأرض اليباب؟! ليس لأنه سيأتي يوم يتم إصلاح ما انهار مهما طال الوقت فقط، لكن لأن الخروج من الأرض يعني النهاية، وهذا ما يقدمه لنا أهل غزة الآن من دروس وعبر. لن يجد الصهاينة هرقل الذي يمكن أن يرفع أهل غزة وفلسطين عن الأرض مهما أمدتهم أمريكا بالسلاح المدمر. ستفشل كل خطط الشرق الأوسط الجديد. من الأرض اليباب يضع أهل غزة بدايات التاريخ الحقيقي رغم ما يرتكبه الصهاينة من مذابح يظنونها النهايات.