12 سبتمبر 2025
تسجيلدلف إلى كوخه القصير المنزوي في الركن القصي من الحي القديم، أخذ يلملم أوراقه المبعثرة على عجل قبل أن يقوم بإعدامها بإتقان شديد حال من لا يريد أن يترك وراءه أي أثر بعد الرحيل، كان يتمتم بكلمات لا يتمهنّ على الوجه الأكمل، شعره المنكوش، وهندامه غير المرتب، وعيونه الزائغة، ونظراته القلقة، كلها جميعا، تقول إن وراء أكمة الرجل سر من الأسرار. ولكن ذلك السر لا سبيل إلى تبين كنهه. أطلق عليه أصدقاؤه لقب الشاعر الفيلسوف بسبب كثرة جداله، وحفظه لأشعار الثوار اليساريين والاستدلال بها. لاحظ عليه أصدقاؤه في الشهور الأخيرة قلقا، وحراكا كثيرا حتى وهو بمفرده في كوخه الصغير في حالة مغايرة لحالاته القديمة التي ألفها الذين عاشروه في الحي القديم. صاروا يسمون تصرفاته بغير العادية، والمثيرة للشبهات والانتباه، صديقه عماد كان يسترق النظر إليه خلسة عندما يغوص في جدلياته التي لا تنتهي دون أن يشعره أنه يراقب حركاته وسكناته. لاحظوا كيف كان ينكش شعر رأسه الكثيف بقوة عندما يستبد به الغضب أثناء النقاش. صديقه عماد كان يحاول التقاط همهماته الخفيضة. كلمة أو كلمتين يلتقطهما قد تدلانه إلى ما يخفي الرجل. في ذلك اليوم الذي تحول إلى اليوم الأخير كان هادئا وساكنا وعازفا عن الجدال الذي ألفه منه أصدقاؤه، كان دائم التبسم، وإن كانت ابتساماته تبدو ساخرة، وكأنها موجهة ضد جليس ضنين بالرؤيا، فجأة يصرخ الرجل بصوت عال وهو يردد: قد بلغت الحلقوم. قلت قد بلغت الحلقوم، ألا تسمعون، أمسك بتلابيب أقرب الجلساء إليه وأخذ يهزه بقوة ويقول: قلت لك أنج بنفسك فمازال في الوقت متسع. يهدأ قليلا قبل أن يواصل: لا ضير، كلنا صائرون إلى تراب، الوحش يقتل ثائرا والأرض لا تنبت ثائرا، كذب الشاعر: الأرض لن تنبت ثائرا، ولكن الوحش يقتل مليون ثائر، يدوي الانفجار العنيف، يقضي على الجميع، وجدت صحف الصباح مادة غزيرة لمانشيتاتها العريضة، أكثرها إثارة كان اكتشافها أن الشاعر الفيلسوف كان هو صانع أحزمة الموت السريع الذي كانت تبحث عنه استخبارات المدينة. الأكثر طرافة في الحكاية هو أن الشاعر الفيلسوف كان أحد أهم المخبرين الذين كانوا يضللون استخبارات المدينة بإتقان شديد.