14 سبتمبر 2025
تسجيلاطلعت منذ فترة على حوار مع الناقد والأكاديمي السعودي د. عبدالله الغذامي، وقد لفت نظري في هذا الحوار المتعدد الجوانب والقضايا أحد الأسئلة المطروحة حول النهوض الثقافي ومعوقاته وانحصاره في الحيز الثقافي النخبوي، وعدم وصوله إلى المجتمع. فجاء الرد من الدكتور الغذامي في بعض فقرات رده أن الإشكالية أو المأزق اللغوي الخطير ـ كما قال ـ تقع " من الصيغة التي رسمها جمال الدين الأفغاني لفكرة "المستبد العادل" أنه مفهوم أحدث تخريباً عميقاً في أفكار المثقفين الذين قبلوه حتى من دون جدال حوله. فكرة "المستبد العادل" ظلت سائدة ولا تزال، ووجد كل زعيم نفسه مجسداً لها، سواء كان من زعامات ما قبل الانقلابات أو بعدها". ويضيف في فقرة أخرى من هذا الرد أن "المثقف هو الذي نظّر لها وللسلطات التي ارتبطت بها، وقبلها مستنداً إلى مفهوم المستبد العادل على نسق جمال الدين الأفغاني" ولا أدري كيف اهتدى الغذامي إلى هذا الاتهام وصاغه تلك الصياغة التحويرية الاتهامية من خلال تعليق كل مشاكلنا الفكرية والثقافية والتراجع النهضوي إلى مقولة جمال الدين الأفغاني [ المستبد العادل!!]. والواقع أن جمال الدين الأفغاني لم يكن بتلك الصورة من النظرة الاختزالية التي أطلقها البعض من الكتاب لأسباب إيديولوجية وفكرية ـ وهذا قبل أن يقولها الغذامي ـ ونحن هنا سوف نناقش هذا المفهوم ومدى صحة اتهام الأفغاني ـ والشيخ محمد عبده أيضا ـ الذي اتهم البعض أيضا بمقولة المستبد العادل وفق المفهوم الغربي للاستبداد.منذ القرن المنصرم ردد البعض من الكتاب العرب إن الاستبداد بنية كامنة في الفكر العربي الإسلامي ولذلك فإن دعوات الإصلاح لا تستقيم وهذه المفاهيم المستبدة، في إشارة إلى المقولة الشائعة "المستبد العادل" التي أطلقت على سيرة الخليفة عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) في الحكم والإدارة، ولكنها ـ كما نعتقد ـ جاءت هذه المقولة محرفة عن معناها بحيث لا تعبر عن المفهوم المتعارف عليه في التراث العربي الإسلامي وهو "الحزم" و"عدم التردد في اتخاذ القرار" وإنما بمعنى الاستبداد وفق المفهوم الغربي وهو الانفراد بالرأي والسلطة دون أن تكون هذه السلطة خاضعة للقانون ودون النظر إلى رأي المحكومين إلخ.. فكيف انتقل هذا المفهوم "الاستبداد" بمضامينه وحمولته الفكرية الغربية إلى المفهوم العربي الإسلامي؟ ومن هو قائل هذه العبارة؟ وهل قصدت عبارة المستبد العادل بمعناها الغربي بتلك المضامين السلبية؟ شاعت مقولة الاستبداد في القرن التاسع عشر والقرن العشرين بين الإصلاحيين الإسلاميين من خلال بعض كتابات ومقالات مختلفة ومن هؤلاء عبد الرحمن الكواكبي في كتابه (طبائع الاستبداد)، وجمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده من خلال مجلتهما مجلة "العروة الوثقى" ويورد د/ إمام عبد الله الفتاح إمام أن مقولة "المستبد العادل" انتقلت من أوروبا إلى الشرق.. فالحل الذي أرتاه جمال الدين الأفغاني لمشكلات الشرق إنما هو "المستبد العادل" الذي يحكم بالشورى وقال ما نصه: "لن تحيا مصر، ولا الشرق بدوله، وإماراته، إلا إذا أتاح الله لكل منهما رجلاً قوياً عادلاً يحكمه بأهله على غير تفرد بالقوة والسلطان. وهذه المقولة التي قالها الإمام جمال الدين الأفغاني لا تعني أنه أيد الاستبداد بمضامينه المعروفة، إنما تعني الحزم والقوة والعدل في ظل الظروف التي يعيشها العالم الإسلامي في فترة تكالب الدول الاستعمارية للسيطرة عليه. فهذا القول لا يؤكد أنه يؤيد الاستبداد السلبي بمفهومه الديكتاتوري المتسلط. كما أورد الدكتور محمد عابد الجابري في كتابه [ المشروع النهضوي العربي.. مراجعة نقدية ] أن الشيخ محمد عبده تحدث عن نموذج "المستبد العادل" وقال ما نصه "إنما ينهض بالشرق مستبد عادل"، مستبد "يتمكن به العدل أن يصنع في خمس عشرة سنة ما لا يصنع العقل وحده في خمسة عشر قرناً. الواقع أن مقولة "المستبد العادل" التي قالها الشيخ محمد عبده، أو الحاكم القوي العادل عند جمال الدين الأفغاني في مناسبة واحدة فقط لا تعبر عن موقف ثابت من مسألة الاستبداد من هؤلاء الإصلاحيين المسلمين، حتى وإن كان مفهوم الاستبداد الذي قصداه يتوافق مع مفهومه في الغرب أو ربما جاء الطرح قبل أن يتكشفا الآثار الوخيمة للاستبداد، أما إذا كان مقصدهما الاستبداد بمعناه العربي الإسلامي كما أشرنا فإن المسألة واضحة وتتقارب مع كتاباتهما ومقالاتهما الإصلاحية. وهذا أيضاً لا يستقيم ـ إن كانت الإشارة ـ المستبد العادل ـ قصد بها سياسة اتبعها الخليفة عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) وهذا ما يعد مخالفاً لسياساته ومواقفه وأعماله العظيمة في الشورى والعدل والمواقف الإنسانية الأخرى التي تخالف مفاهيم الاستبداد وتطبيقاته العملية. ففي كتابات الإصلاحيين الإمام جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده الكثير من الآراء الناقدة للاستبداد ومخاطره على الأمة والنهضة والتقدم. فقد كتب جمال الدين الأفغاني في مجلة العروة الوثقى العديد من المقالات هاجم فيها الاستبداد هجوماً عنيفاً واعتبر أن الاستبداد أساس بلاء الأمة وشقائها ومما قاله "إن الأمة التي ليس في شؤونها حل ولا عقد، ولا تستشار في مصالحها، ولا أثر لإرادتها في منافعها العمومية، وإنما هي خاضعة لحكم واحد إرادته قانون، ومشيئته نظام، يحكم ما يشاء، ويفعل ما يريد، تلك أمة لا تثبت على حال واحد، ولا ينضبط لها سير". ويعلق د/ عبد الإله بلقزيز على طرح الأفغاني بقوله: إن "نقد الاستبداد في الفكر الإصلاحي الإسلامي الحديث.. جرى الاعتناء ـ في الأولى ـ بالكشف عن جذور هذا الاستبداد في أزعومة الحق الإلهي، التي قامت عليها فكرة السلطة الدينية في الإسلام، وكان الاستزراع بها من قبل الحكام طريقاً لهم إلى إطلاق يدهم في الدولة وحقوق الرعية. أما في الثانية، فجرى الانصراف إلى تعيين أشكال الاستبداد السياسي المختلفة، والكشف عن نظامه أو عن نمط اشتغال آلياته (بلغة عصرنا)".وفي مقالة الأفغاني حملت عنوان "الحكومة الاستبدادية" نشرت في جريدة [ مصر ] عام 1879 قال فيها جمال الدين:"إن من يساسون بالحكومة الدستورية تستيقظ فيهم الفطرة الإنسانية السليمة التي تحفزهم للخروج من حياتهم البهيمية الوضيعة لبلوغ أقصى درجات الكمال والتخلص من نير الحكومة الاستبدادية التي تثقل كواهلهم".كما أن جمال الدين الأفغاني ـ عند المنصف الأمين كما يشير د/ محمد عمارة لا يدع مجال للشك في انحيازه إلى مبدأ "الأمة هي مصدر السلطات" في سياسة المجتمع "بما يعنيه ذلك من ضرورة" استمداد السلطة الزمنية قوتها من الأمة"، والتزامها بتحقيق مصالح الأمة وحقوقها، خاصة "في الأمن.. والعدل".. وذلك بالمبدأ القائل ـ وفق ألفاظ الأفغاني ـ:"إن الإرادة الحرة للشعب الحر هي القانون"!.. وفي هذه المعاني المحددة والواضحة يقول جمال الدين: "إن السلطة الزمنية، بمليكها أو سلطانها، إنما استمدت قوتها من الأمة لأجل قمع أهل الشر، وصيانة حقوق العامة والخاصة، وتوفير الراحة للمجموع بالسهر على الأمن، وتوزيع العدالة المطلقة، إلى آخر ما في الوازع والسلطان من المنافع العامة. ولم يتوقف إيمان جمال الدين الأفغاني بالحكم الدستوري ـ النيابي بل واصل دعوته القوية المزلزلة فيقول: "لا تحيا مصر ولا يحيا الشرق، بدوله وإماراته، إلا إذا أتاح الله لكل منهم رجلاً قوياً عادلاً، يحكمه بأهله، على غير طريق التفرد بالقوة والسلطان، لأن بالقوة المطلقة: الاستبداد، ولا عدل إلا مع القوة المقيدة. وحكم مصر بأهلها إنما أعني به: الاشتراك الأهلي بالحكم الدستوري الصحيح. وإذا صح أن من الأشياء ما ليس يوهب، فأهم هذه الأشياء: (الحرية) و(الاستقلال).