14 سبتمبر 2025
تسجيلمنذ وصول حركات إسلامية مدنية إلى السلطة بإرادة الشعوب العربية بعد حركات التغيير التي شهدها عام 2011 سجلنا هذه الأيام تفاقم ظاهرة أكبر من السياسة لأنها ظاهرة حضارية توسعت حلقاتها بشكل متصاعد في الغرب بشقيه الأمريكي والأوروبي وهي ظاهرة يمكن أن نطلق عليها عودة الفكر الصليبي بكل آلياته التاريخية الجائرة لكن بتحالف جديد مع الصهيونية المتعصبة من جهة ومع لفيف عربي جهول ومخادع من أشباه المثقفين الذين يناصرون هذه المظلمة الحضارية تحت ستار التنوير والحداثة.. ولعل المتابعين للشأن الدولي أدركوا كيف تعامل الغرب ووسائل إعلامه مع التحولات العميقة التي عاشتها تونس ومصر وليبيا واليمن، حيث تم تكريس عقيدة ما يسمى "اليقظة والحذر وانتظار القرارات" والمقصود بهذه العقيدة الدبلوماسية هو في الواقع الاستخفاف بإرادة الشعوب والإعلان الخفي بأن الناخبين العرب أساءوا الاختيار! ويذكرنا هذا السلوك الغربي بما حدث منذ سنوات قليلة يوم عودة الأمير(هاري) ابن ولي العهد البريطاني من حرب أفغانستان إلى قصر برمنغهام بعد المساهمة في العمليات العسكرية للقوات البريطانية ضمن فيالق حلف شمال الأطلسي. فقد قدم الإعلام الغربي هذه العودة في شكل عودة الملك البريطاني الصليبي (ريتشارد قلب الأسد) من الحروب الصليبية وذهبت صحيفة (ذي سان) إلى حد تلقيب (هاري) بملك هلمند، المقاطعة الأفغانية التي مارس فيها الأمير الشاب مهاراته الحربية في بلاد مسلمة، وذلك جريا على سنة التقاليد الصليبية منذ ألف عام حين كانت الكنيسة تتوج ملوك أوروبا الغزاة أمراء على البلدان المسلمة التي احتلوها. وأمطرتنا الصحف السخيفة بحكايات بطولة الأمير الضابط ومغامراته في أفغانستان التي قدمتها هذه الأقلام البلهاء على أنها وكر للحشاشين والإرهابيين والمجرمين، ناشرة صور الأمير الجندي وهو يطلق نار المدفع الرشاش على أهداف مجهولة! أساطير جديدة قديمة كنا قرأناها في أدبيات الحروب الصليبية هي التي تصنع المخيال الشعبي في الغرب بالأمس واليوم وتجييشه ليس ضد التطرف لأننا جميعا ضد التطرف بل ضد المسلمين والإسلام بنوع من الصفاقة التي لم تعد تستحي فتدارى بل أصبحت تعلن عن نفسها بوقاحة. ويشهد الله أننا لسنا نحن- المسلمين- الذين ندين هذه الظاهرة بل يدينها معنا وقبلنا شرفاء المفكرين الغربيين أنفسهم وحتى اليهود منهم، حين شعروا بما شعرنا به من تحالفات مشبوهة بين متطرفين مسيحيين ومتعصبين يهود للنيل من رسالة الإسلام وكرامة المسلمين.، وبالتالي تهديد السلام العالمي بسلوكيات إجرامية خارجة عن القانون الدولي. فالمثقف اليهودي الفرنسي (جون دانيال) صاحب ومدير المجلة الأسبوعية الباريسية (لونوفل أبسرفاتور) كتب في آخر كتاب صدر له بعنوان (إسرائيل والعرب وفلسطين) يقول: "إن الفلسطينيين اليوم بالنسبة لليهود يشبهون يهود الأمس بالنسبة للأوروبيين النازيين: شعب يجب القضاء عليه". أما المثقف الفرنسي الكبير(ريجيس دوبريه) رفيق شي غيفارا فقال في كتابه الأخير (مسافر في الأرض المقدسة) بأن الشعب الفلسطيني ضحية لعمليات تشويه مقصودة جعلت منه إرهابيا بينما هو يقاوم من أجل حقوقه المسلوبة وأرضه المغتصبة. ونقرأ أيضا للخبير الإعلامي (برنار لانجلوا) في مجلة (بوليتيس) قوله بأن الإعلام الغربي أصبح متحيزا ضد العرب والمسلمين بشكل غير مسبوق ويقدم على ذلك نماذج دامغة منها أن كل من يكتب عن الشرق الأوسط يجب أن يقول بأن العرب هم دوما المبادرون بالحرب وأن إسرائيل دوما هي المدافعة عن نفسها وأن سقوط ضحية مدنية إسرائيلية هو إرهاب بينما سقوط ضحايا عرب هو دفاع شرعي إسرائيلي عن النفس وأن ليس من حق العرب أسر جندي إسرائيلي واحد ولكن من حق إسرائيل سجن 10000 عربي مدني وأنك حين تنطق باسم حزب الله عليك إضافة عبارة المدعوم من إيران وسوريا ولكن عند النطق بكلمة إسرائيل لا تقل إنها مدعومة من أمريكا وأوروبا ويختم الكاتب تحليله بالقول إنك إذا لم تكن موافقا على هذا الانحياز المفضوح فإنك بلا شك معاد للسامية أو مساند للإرهاب! في هذا العصر المعولم والذي قام فيه المسلمون بإعادة تقييم تاريخهم وبتتويج العقل سلطانا على مواقفهم وسلوكهم نلاحظ مع الأسف استفحال ظاهرة تجديد الفكر الصليبي المتخلف وإعادة تكريره في أشكال أخرى أكثر تسترا وتخفيا لكن مع نفس الغايات الأيديولوجية الاستكبارية التي كان دعا إليها البابا يوربان الثاني منذ ألف عام في كاتدرائية (كليرمون) حين أشعل فتيل الحملات الصليبية التي استمرت قرنين كاملين منذ نداء البابا عام 1095م إلى موت الملك لويس التاسع في تونس عام 1270م. كانت الحملات الصليبية العدوانية خلال هذين القرنين سلسلة من حروب الإبادة والاضطهاد الديني والفكري تواصلت بالحملات الاستخرابية التي نطلق عليها نعت (الاستعمارية) منذ أن وطأت أقدام نابليون وحوافر خيله فناء الجامع الأزهر في الحملة على مصر والشام سنة 1798 إلى تاريخ تحرير الجزائر عام 1961. وظل هذا الفكر الغربي الطاغي يتسلل إلى العقول المسلمة بدعاوى إلحاقنا بركب الحضارة وتعليمنا استعمال أدواتها إلى أن تحقق مع عودة الوعي الأصيل ما كان جيلي يدعو إليه من إنقاذ الهوية واستدعاء الكرامة والندية والكبرياء.