13 سبتمبر 2025

تسجيل

كيف أسقط الرجل الغامض إمبراطورية كاملة؟

07 أكتوبر 2020

في حوالى عام 514 هـ / 1120م، وفي أحد أيام الجمعة، دخل رجل متواضع الهيئة إلى المسجد الكبير في العاصمة، وأخذ يمشي بخطوات ثابتة حتى وصل للمكان المعتاد لرئيس الدولة في المسجد وجلس فيه ينتظر الخطبة، فلما أتاه بعض من يدير الجامع ليزيلوه عن مكان الأمير بادرهم بتلاوة الآية بصوت قوي واثق (وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً)، فنظروا إلى بعضهم البعض ثم كفوا عنه، ولما وصل الأمير إلى الجامع لحضور الصلاة وقف الجميع هيبة واحتراماً له إلا ذلك الرجل الغامض، وبعد انتهاء الصلاة ذهب إلى الأمير وقال له بثقة: "غيّر المنكر في بلدك فأنت المسؤول عن رعيتك"، ولم يقل غير هذه الجملة ثم مضى في سبيله وطبعاً لم يرد عليه الأمير ولكن لما وصل قصره أمر وزيره بأن ينظر في حال هذا الرجل فإن كان ذا حاجة فاقضوها له، فرد الرجل أنه ليس له أي حاجة غير إزالة المنكرات فقط. هذه القصة عزيزي القارئ والتي تبدو وكأنها تتحدث عن رجل من الصحابة أو التابعين، وبرغم صبغتها المشرقة التي تلوح منها إلا أنه ومع شديد الأسف لم تكن غير مسمار النعش الأول وبداية النهاية لانهيار واحدة من أكبر وأعظم دول الإسلام على مر التاريخ ولا حول ولا قوة إلا بالله. تلك هي دولة المرابطين العملاقة التي حكمت تقريبا ثلث القارة الأفريقية، وأميرها هو المجاهد (عليّ) ابن أمير المسلمين وناصر الدين يوسف بن تاشفين بطل معركة الزلاقة رحمهم الله جميعاً. أما الرجل الغامض فلم يكن غير (محمد بن تومرت) الذي ادعى العصمة والمهدوية فيما بعد، والذي دمر الدولة المرابطية ليقيم دولته التي ما نافست دولة المرابطين أنفة وعزة وكفاءة في حمل راية هذا الدين العظيم. وبرغم هذا المخزون المهيب والتاريخ العريض للدولة المرابطية إلا أن لله سننا ثوابت لا تتغير ولا تتبدل سواء أحببنا ذلك أم لا، فهي ماضية على خلقه كلهم منذ الأزل وحتى قيام الساعة، فإن أخذ الناس بأسباب النصر وجب، وان أخذوا بأسباب الهزيمة وجبت. ومع الأسف كانت دولة المرابطين قد نخرها الفساد الأخلاقي الشديد برغم كونها رائدة العالم الإسلامي في ذلك الوقت وإن لم تملك إدارة الحرم. والحقيقة أن خروج أمثال هذا الرجل من أصحاب الفكر المتشدد قساة القلوب غلاظ الطباع هو نتيجة متوقعه لعدة أحداث تسبق ذلك الخروج، فإن لم يتم تدارك الأمر حينها وإنقاذ المجتمع فلن يستطيع أحد منع خروجهم لينفذوا قضاء الله وقدره شاؤوا ذلك أم أبوا. كانت الدولة المرابطية في أوج ازدهارها من ناحية الجهاد، ولكنها بنفس الوقت كانت قد تغافلت عن مظاهر الترف والترفيه التي عمّت البلاد فتوقف فيها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وانشغل علماؤها عن الكلام في الضروري من الأمور بالبحث في فروع الدين مما لا يصح تقديمه أبداً على ما هو أولى منه، مثلهم في ذلك كالذي يتحدث في زمننا هذا عن تحريم الاستقسام بالأزلام مثلاً، وفي نفس الوقت يسكت عن حكم قذف الأعراض أو الفجور في الخصومة على وسائل التواصل الاجتماعي. واستمر الفساد الأخلاقي حتى وصل الأمر إلى بيع المحرمات سراً ثم تفاقم بعد ذلك إلى بيعها علانية في العاصمة، بينما كانت هيئات كبار العلماء عندهم مشغولة في نبش بطون أمهات الكتب لتفنيد بعض أحكام الفروع فيها، أما الحكومة فكانت تستمر بالتغافل ولم يكن علماؤهم مشغولين بتزلف الحكام، ولم تكن حكومتهم يوماً تشجع هذا الفساد أو حتى تدعمه من بيت مال المسلمين. كل ما فعلوه هو التغافل فقط، فاستمر الناس في ترفيههم واستمر العلماء في نقاشاتهم العقيمة والدولة في التغافل فكانت النتيجة أن اشتد عليهم الغلاء وفرضت المكوس (الضرائب بدون وجه حق) فارتفعت الأسعار أكثر ثم أيضاً انقطع عنهم المطر فزاد ذلك في الغلاء والفقر برغم الدخل المهول للدولة، ثم أصابهم الجراد فازداد الفقر وتراكم أكثر فزادت الجريمة والفساد نتيجة لتلك النتيجة وهكذا دواليك استمرت كرة الثلج بالتدحرج والدوران حتى خرج عليهم من أسقط دولتهم فانقرضوا من على وجه البسيطة كأن لم يكونوا في الوجود يوماً ما، فاعتبروا يا أولي الألباب. (سنّة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا)