19 سبتمبر 2025
تسجيلأقوم اليوم بتأجير مساحتي " مراويس " للأستاذ الكبير حسن توفيق حيث لم نتمكن من نشرها الأسبوع الماضي بسبب الضغط الإعلاني الكبير وكان التأجيل من نصيب صفحات القسم، وإنني أعتذر كثيرا لأستاذي الكبير حسن من عدم تواصل قرائه مع مقاله مرايا الروح كل يوم خميس وإنني أتنازل عن مساحتي إليه على أمل أن التقي بكم الأسبوع المقبل. صالح غريب رغم كل ما قدمته الحضارة العربية – الإسلامية في الأندلس من مآثر ومنجزات، إلا أن أهل الأندلس لم يكونوا متجانسين ولا متقاربين، بل كانوا ممن تنطبق عليهم الآية الكريمة – تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى – فقد كان فيهم عرب وبربر – أمازيغ، ومعهم يهود، وكان من حكامهم من يستعينون بالفرنجة ضد أشقائهم، وهذا ما جرى في عصر الفتنة ثم عصر ملوك الطوائف وما تلاهما من عصور مضطربة تكفلت بطرد العرب والمسلمين ومعهم اليهود من كل شبر في الأندلس. في تلك الأجواء التي لم تنعم بالأمن والأمان، ولد ابن زيدون في مدينة قرطبة سنة 394هجرية – 1003 ميلادية، وهو إنسان عربي صميم، وهذا ما يشهد عليه اسمه ونسبه، فهو أبو الوليد أحمد بن عبدالله بن زيدون المخزومي الأندلسي القرطبي، وكان أبوه قاضيا في قرطبة ورجلا محبا للعلم وللعلماء، وهذا ما انعكس على نشأة ابنه بصورة مشرقة، وهي نشأة تتناقض تماما مع النشأة اللاهية للأميرة المدللة ولادة بنت الخليفة المستكفي بالله. منذ بداية حكاية الحب بين الطرفين – ابن زيدون وولادة، ظل الطرف الأول عاشقا صادقا، وقد تجلى هذا فيما أبدعه من روائع شعرية خالدة، بينما ظلت ولادة تتلهى وتتسلى بعد أن ضمنت أنها قد أوقعت الشاعر العاشق في حبالها، وانطلقت لتبحث عن مغامرات ونزوات أخرى، لكي يظل قلب عاشقها الشاعر الصادق محترقا، وهو يقاسي مما يتجرعه من كؤوس العذاب، المرصوصة فوق مائدة السراب. كان لابد أن تحدث الجفوة ما أحدثت من فجوة في العلاقة ما بين الطرفين، ولكي تمعن الأميرة المدللة في إغاظة الشاعر العاشق، بادرت لإقامة علاقة حميمة مع أبو عامر بن عبدوس، وهو وإن كان وزيرا خطيرا وفاسقا وله في المكائد صولات وجولات، إلا أنه لم يكن شاعرا مرهفا كبيرا وشهيرا، وكيف يمكن لمن يجيد حبك المؤامرات والمكائد بدهاء ومكر، أن يكون واحدا ممن يجيدون فن الشعر؟! مكيدة جديدة دبرها الوزير الخطير الفاسق على موائد المكائد ضد الشاعر المرهف العاشق، أما الأميرة اللاهية المدللة فقد اكتفت بأن تتفرج على ما جرى، ربما بشماتة، وربما بلا مبالاة، ومن سجنه الذي ألقته المكيدة في ظلماته كتب ابن زيدون إلى المتفرجة اللاهية: وأعجب كيف يغلبني عدو رضاك عليه من أمضى سلاح فلو أسطيع طرت إليك شوقا وكيف يطير مقصوص الجناح؟ ظل الشاعر العاشق غارقا في ظلمات السجن نحو خمسمائة يوم، ولما يئس من أن يفرج عنه الذين ظلموه حين سجنوه، قرر الهرب لكي يستعيد حريته المفقودة، وقد ساعده فيما قرره أحد محبيه وهو أبو الوليد بن جهور، لكنه برغم محنة السجن لم يستطع أن ينسى حبيبته الجميلة ولادة، وهذا ما سجله في رائعته المطولة التي أرى أنها لؤلؤة ساطعة من لآليء تراثنا الشعري العربي، وفيها يقول: إنا قرأنا الأسى يوم النوى سورا مكتوبة وأخذنا الصبر تلقينا أما هواك فلم نعدل بمنهله شربا وإن كان يروينا فيظمينا لم نجف أفق جمال أنت كوكبه سالين عنه ولم نهجره قالينا عليك مني سلام الله ما بقيت صبابة منك نخفيها فتخفينا أظن أن من حقي الآن أن أتساءل: أيهما انتصر على الآخر.. الشاعر العاشق أم الوزير الفاسق؟. وأبادر فأقول إننا جميعا نستعيد إلى اليوم روائع ابن زيدون بنفس القدر الذي نتذكره بها، أما ابن عبدوس، فلا أحد منا كان يمكن أن يتذكر اسمه لولا ما اقترفه من مكائد تجاه شاعر كبير عاش وسيظل يعيش متجددا ومتألقا في كل قلب من قلوب العشاق الصادقين والشعراء المرهفين.