19 ديسمبر 2025
تسجيلالسياسات عابرة والجمهورية الفرنسية باقية وستظل فرنسا رغم القوسين الاستعماريين هي أم ميثاق حقوق الانسان وحاضنة حركات التنوير الفكري وسيتجاوز المجتمع الفرنسي محنة انحراف بعض أحزابه نحو اليمين العنصري وانحراف بعض شبابه نحو التطرف. أذكر سنة 1987 عين الرئيس (فرنسوا ميتران) صديقه السياسي الكبير ورئيس حكومة فرنسا الأسبق (ادغار فور) رئيسا للجنة الوطنية لاحياء الذكرى المئوية الثانية للثورة الفرنسية (1789-1989) فراسلته وكنت أيامها معيدا باحثا في جامعة السوربون مع أستاذنا المستشرق الشهير (دومينيك شوفالييه) راجيا اياه أن يقبل تعييني مسؤولا عن تحرير الجزء المتعلق "بتأثير الثورة الفرنسية في حركات الاصلاح والتنوير في العالم الاسلامي" وقبل بسرعة وصارحني بالهاتف أنه لم يفكر في هذا الجانب الأساسي في الثورة الفرنسية وبالفعل كلفني بكتابة البحث في هذا المحور الهام والتقينا مرات عديدة وهو شخصية متميزة ثرية لأنه هو الذي عينته الحكومة الفرنسية بأن يكون ممثل فرنسا في المحاكمة الشهيرة لزعماء النازية الألمان في مدينة (نورنبورغ) الألمانية وهو صديق حميم للزعيم بورقيبة وآخر قادة الرأي والسياسة في الجمهورية الرابعة الفرنسية. تذكرت هذا الحدث القديم بمناسبة العودة القوية لملف الجالية المسلمة في فرنسا وتنافس الحزب الحاكم فيها مع المعارضة اليمينية العنصرية في استقطاب الناخبين على حساب الحقائق والتاريخ استعدادا لرئاسيات 2022 ووقع تدريجيا تحويل قضية الجالية المسلمة بسبب جريمة عنصرية معزولة إلى أدق القضايا اليوم في الانتخابات القادمة خاصة بعد بيان الضباط المتقاعدين الذين هددوا السلطة بحرب أهلية أو بانقلاب عسكري! وخاصة بعد بيان وقعته عشرات المنظمات الحقوقية ومئات الشخصيات الأكاديمية الفرنسية ينبه إلى خطر المد اليميني العنصري الذي يهدد 6 ملايين مسلم فرنسي ويقدمهم أكباش فداء لنيل أصوات الناخبين. والذي وقع هذه الأيام الأخيرة في فرنسا هو استجابة المتطرفين لنداءات الأحزاب العنصرية فتم حرق مسجد مدينة (نانتس) وتخريب مساجد مدن (لومان) و(بايون) و(رين) والتهديد بهدم مسجد (سترازبورغ). اليوم نحن نعيش في مجتمع فرنسي مختلف تماما عن ذلك الذي درسنا في جامعاته طلابا ثم منحنا الأمان حين قدمنا منفيين من أوطاننا واحتضننا وأنصفنا لأن البحر الأبيض المتوسط الذي كان بحيرة تواصل وتبادل ثقافي وتجاري تحول إلى جسر تعبر منه فواجعنا العربية والافريقية إلى القارة الأوروبية مع استفحال الأزمات الاقليمية واندلاع الحروب الأهلية فبدأت موجات الهجرات المليونية تحط على سواحل أوروبا قادمة على مراكب الموت واليأس طلبا للنجاة بالنفس والأطفال من موت محقق تحت القصف. ثم إن آلاف الشباب الأوروبيين جنسية أو عرقا ( وأغلبهم من فرنسا) استقطبتهم المواقع الارهابية أو جندتهم بعض الوكالات المشبوهة ليتحولوا إلى قتلة وانتحاريين وهم من نتاج مزدوج أي ضحايا عجز الدول العربية والافريقية عن توفير الحد الأدنى لهم من الشغل والكرامة والحرية والأمان من جهة وفشل الدولة الفرنسية في ادماجهم السليم في المجتمع من جهة ثانية فنشأ أغلبهم في الأحياء المهمشة ونجح منهم من نجح في الارتقاء بالمصعد الاجتماعي ولكن فشل منهم البعض وشعر أنه منبوذ لا يحصل على شغل ولا يجد أيادي تنتشله، وبالطبع مارس بعض هؤلاء الارهاب ضد مواطنين مدنيين أبرياء من جميع الأديان في أحداث دموية ظلت عالقة بوجدان الشعب الفرنسي المصدوم ونشأ لدى المواطن الفرنسي خوف لا من الارهاب بل من الاسلام ذاته وهو شعور استغلته التيارات اليمينية العنصرية المتطرفة التي تريد تدليس التاريخ وطمس الحقائق وأولها أن المسلمين ساهموا في تحرير فرنسا من الاحتلال النازي الألماني سنة 1944عندما جهز الجنرال (لوكلارك) جيشا من المغاربيين والسينغاليين وعبر بهم البحر ليكونوا أول من يتصدى للجيش الألماني في جنوب فرنسا، كما ساهم المسلمون المهاجرون في الستينيات في بناء أغلب البنية التحتية الفرنسية من طرقات سريعة وجسور وسدود وحفر أنفاق المترو تحت الأرض وحسب احصائيات وزارة الصحة الفرنسية توفي من هؤلاء جراء الأشغال الشاقة حوالي 15 الف مسلم مهاجر بسبب الثلوج والعمل الشاق وهشاشة الوضع العام من مأكل وسكن وانعدام اللباس الواقي ثم ان فرنسا لا تنكر أن من بين أبناء الجيلين الثاني والثالث من المهاجرين المسلمين آلافا ممن ساهموا في فوز فرنسا ببطولات أولمبية في الرياضات كلها وفي اشعاع الثقافة الفرنسية من كتاب كبار وسينمائيين موهوبين وفنانين متميزين كما ساهموا بكفاءاتهم العالية في انعاش الاقتصاد الفرنسي والصناعات والطب وغزو الفضاء، وهم مواطنون مندمجون في قيم الجمهورية، لكن أغلبهم يشعرون بانتمائهم إلى الإسلام السمح المتعايش مع قيم الجمهورية وأخلاقها واحترامها للدستور والقانون.