13 سبتمبر 2025

تسجيل

أم الثورات العربية هي الثورة في التعليم

07 مارس 2022

لوقرأنا الأسباب الحقيقية وراء اندلاع نيران الغضب العربي خلال سنة 2011، وشبوب الحرائق هنا وهناك ضد الأنظمة القديمة القائمة وضد تكلس المجتمعات المدنية، وضد تصلب شرايين الأجيال الصاعدة، لوتأملنا أعماق ما وقع من تغييرات لم تكن موفقة ومن أحلام أجهضت لاكتشفنا أن أصل الداء العربي في كل من تونس ومصر وليبيا واليمن إنما يكمن في تعليم فاشل وتربية خاطئة ومؤسسات تعليمية عقيمة، وبالطبع إلى جانب فساد الأنظمة السياسية بلا شك، حيث انفجرت غضبات الشباب العاطل المهمش بعد سنوات قضاها على مقاعد الدراسة من الجد والكد وقد باع الوالدان ما يعز عليهما لكي يتخرج الابن وتتخرج البنت ويبتسم لهما الحظ بعمل شريف يليق بالشهادات المتحصل عليها. فإذا بالخريج والخريجة من الجامعات يجدان نفسيهما على قارعة طريق الحياة، ولا أمل أوبصيص أمل بعمل أووظيفة وتمضي السنوات وتأكل كراسي المقاهي حياة الشاب كما تأكل غرف المنزل وأرصفة الشوارع حياة الشابة وتنفتح أمامهما أبواب أخرى، فإما الهجرة السرية وإما الانحراف وإما الصبر على عمل لا يتلاءم مع الكفاءة والشهادات وبالطبع في كل الحالات اليأس من المجتمع الجائر ثم الثورة عليه أملا في حصول المعجزة مع نظام بديل رغم أنه غير مأمون. ونعلم جميعا ما انحرفت إليه جميع الانتفاضات من خيبات أمل الشباب بل ومن تعميق الهوة بينهم وبين مجتمعات بلا دولة وبلا رؤية وطنية توافقية ترفع النخبة فوق الأحزاب والقبائل، وما ألت إليه بعض بلداننا من انتشار الإرهاب فضاعت أزاهر ما خلناه ربيعا عربيا في زحمة الأشواك فتساءلت جماهير العرب أين الوعد الحق، وهل لليوم الكالح غد مشرق. ولم أشهد بعد تلك الانكسارات تفكيرا جديا وموضوعيا في أسباب هزيمة العقل العربي أي الإشارة الصريحة لبرامج التربية والتعليم، لأنها هي التي هندست لنا الخيبات وصنعت الأزمات. فالشباب الذي خرج للشوارع بصفة تلقائية إنما هب لينادي بالشغل والكرامة والحرية ولكن أساسا بالشغل الذي هوالضامن للكرامة وللحرية وبما أنني بحكم مسيرتي العسيرة في الحياة بدأت حياتي المهنية مدرسا في المدارس الابتدائية الريفية حين انقطعت عن مواصلة تعليمي ثم كنت مدرسا مؤقتا في بعض المعاهد الثانوية ثم انتهيت أستاذا في الجامعة إلى أن أشرفت على رسائل دكتوراه، وانتقلت بي تقلبات الدهر من تونس العربية الإفريقية إلى فرنسا المسيحية الأوروبية إلى قطر العربية المسلمة الخليجية إلى كندا الأمريكية الشمالية (ولوعن بعد وضمن التعليم الإلكتروني)، فكتب الله لي أن أعايش تجارب الأمم في صناعة الأجيال وهندسة التوازن الاجتماعي الذي لا يكون إلا نتاج تعليم ناجح موفق. وتأملت في إشكالية التربية وتجارب الملاءمة بين مخرجات التعليم ومدخلات سوق الشغل وتعمقت في تحليل النماذج الناجحة في بلدان مختلفة الأعراق والأديان والثقافات لأتبين مواقع التميز وتسخير مؤسسات التربية من أجل ضمان التقدم الاقتصادي وتلافي الخلل الاجتماعي وتوفير الحظوظ المتكافئة لجميع الشباب دون تمييز، وكل ذلك في كنف الأمن المدني وتواصل حلقات الأجيال وتحقيق نسب عالية من مؤشرات التنمية البشرية والمعرفية والثقافية. ومن بين النماذج التي أعتبرها جديرة بالمتابعة والاستلهام بالنسبة لنا نحن العرب نموذج سنغافورة ذات الثقافة البوذية والهندوسية والبراهمانية والكنفوشية والمسيحية والطاوية وبعض الهنود المسلمين فتجد المعابد لجميع هذه الأديان والمعتقدات، لكن اللغة الأنجليزية وهي اللغة الرسمية والأكثر تداولا تجمع كل الملل والنحل إلى جانب مركز التكنولوجيا الخلاقة (كرياتيف تكنولوجي) وسكان سنغافورة الثلاثة ملايين من أصول صينية وهندية وأوروبية. كل هذه الفسيفساء جعلت من الشعب السنغافوري وحدة حقيقية صماء بفضل إعلاء الشأن الوطني العام فوق اعتبارات العرق والمعتقد والسياسة فكان التعليم هوالروح الجامعة لمواطنيها. والنموذج الثاني هوالماليزي تلك البلاد ذات الأغلبية الساحقة من المسلمين وذات ال28 مليونا ساكنا وهي تحتل المرتبة الثالثة في القارة الآسيوية من حيث حيوية اقتصادها والمرتبة الثالثة والعشرين عالميا بمعدل نمو سنوي لم ينزل دون الـ6,5 طوال العقدين الأخيرين وأصبحت ماليزيا كعبة القاصدين للتجارة الدولية والسياحة الطبية وتوفر جامعات راقية في شتى مجالات العلوم والتكنولوجيا. أما النماذج الأخرى فهي من بلدان أوروبا الشمالية الاسكندنافية مثل السويد والنرويج والدانمارك، وهي البلدان الأقل نسبة عاطلين من مجموع السكان (النسبة تتراوح في هذه البلدان الثلاث من 2,5% إلى 4,5 %مقابل 12% في فرنسا و19% في أسبانيا واليونان إلى أخر قائمة البلدان الأوروبية المصنعة ولم تحد عن هذه النسب العالية من البطالة سوى ألمانيا لأسباب عديدة). وإذا اتفقنا على أن بطالة الشباب العربي هي بيت الداء في المجتمعات العربية وهي التي كانت القشة التي قسمت ظهر بعيرنا العربي، فالمتهم الرئيسي لدينا هوالتعليم وخياراته الفاسدة منذ استقلال شعوبنا عن الاستعمار، ثم إذا اتفقنا على أن التطرف الديني والعلماني هوالذي فرخ الإرهاب فالمتهم الأول أيضا هو التعليم. أما الحلول فهي التي استلهمها من تجارب البلدان التي ذكرتها والتي مهما كانت الاختلافات بينها فقد أسست تعليمها على ما يسمى (المدرسة المفتوحة أوبن سكول) أي أن المدرسة لم تعد مؤسسة مركزية واحدة موحدة البرامج تسقط عليها برامجها التربوية من فوق بل تحولت إلى مؤسسة محلية يتكون مجلس إدارتها من أرباب الصناعة والمزارعين من القرية أوالمدينة ذاتها التي فيها المدرسة إلى جانب برنامج وطني مشترك لكن محدود ينمي في الأجيال شعور الانتماء إلى وطن واحد. فالمدرسة المفتوحة على محيطها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي المحلي وبيئتها الطبيعية هي التي تصنع جيلا لا يغادر قريته ولا مدينته، بل ينشأ على معرفتها ومحبتها والرغبة في العيش فيها وبالتفاعل اليومي بين المدرسة والحياة الاقتصادية من حولها لا يتعب الخريج في إيجاد موطن شغل. أما المركزية السخيفة البالية في مؤسساتنا التعليمية العربية فإنها تحفر الخنادق بين الإنسان وأرضه وتدفعه للهجرة وتباعد ما بينه وبين الكرامة والشغل والحرية. فلنعد النظر بعمق وجرأة في مصنع أجيالنا قبل أن يهب الإعصار. [email protected]