18 نوفمبر 2025

تسجيل

اللغة وسيلة تفكير لا وسيلة تعبيرأيها العرب

07 مارس 2017

فوجئت في مؤتمر دعيت إليه انعقد في عاصمة خليجية بأن منظمي المؤتمر أعدوا مترجمين فوريين للزملاء التوانسة و الجزائريين (من الفرنسية إلى العربية) وحين سألت المسؤول عن تنظيم المؤتمر عن السر لأن المؤتمر عربي و أعماله ستدور بالعربية صارحني بأن الإخوة من تونس و الجزائر في تدخلاتهم الشفاهية كثيرا ما يستعملون لغة هجينة خليطا من العربية و الفرنسية للتعبير عن مواقفهم ليس كلهم بالطبع من حسن الحظ و لكن الأغلبية منهم. و أدركت أكثر من ذي قبل أن قضية اللغة الأم هي قضية سياسية و حضارية بالدرجة الأولى و يكفي أن تشاهد على قنواتنا التلفزية و لقاءاتنا المختلفة نخبة السياسة لا يجدون العبارة العربية فيلجأون للفرنسية التي غرسوها فينا منذ المدرسة إلى الجامعة لا كلغة ثانية كما خططنا للتعريب منذ السبعينات بزعامة محمد مزالي بل كلغة بديلة كما هو واقع اليوم في تونس. من بعيد و للذي لا يفقه العلاقات الدولية بين الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي على سبيل المثال، يبدو مشهد العلاقات البينية الأوروبية مشهدا ورديا وديعا يحمل أجمل العبارات الدبلوماسية والمجاملات التشريفاتية بينما اكتشفت أن مؤتمرات الاتحاد الأوروبي يحضرها مترجمون أكثر من عدد المؤتمرين لأن أوروبا تتكلم 22 لغة وهي مجتمعة في اتحادها الأوروبي و نحن العرب نتكلم لغة واحدة و نتفرق شيعا و قبائل و طوائف. و حين يلتقي الزعماء الأوروبيون و يتبادلون التحيات الزكيات و يتبادلون الأزهار فيما بينهم، بل و يستعمل كل منهم لغة الضيف الآخر زيادة في الترحاب. لكن الواقع مختلف تماما حين يجد الجد و يلجأ المسؤولون في كل دولة أوروبية كبرى إلى القوانين القاسية لحماية اللغة و الثقافة في بلادهم من الهيمنة المفروضة للغة أخرى على لغتهم. و هنا لابد أن نذكر بقانون السيدة (كاترين تاسكا) التي كانت وزيرة الثقافة والفرنكوفونية في بلادها فرنسا في الثمانينات و سنت قانونا لحماية اللغة الفرنسية يصل إلى الحكم بالسجن و الغرامة المرتفعة على كل من يستعمل في الإعلان أو المراسلات أو المؤتمرات لغة أخرى غير اللغة الفرنسية في حال وجود العبارات ذاتها في اللغة الأم. و بالفعل فإن بعض الشركات و بعض الخواص و حتى بعض الإدارات وجدت نفسها أمام القضاء في مواقف لا تحسد عليها مطالبة بالتبرير لاستعمال عبارة (ويد أند) عوض نهاية الأسبوع أو عبارة (الفير بلاي) عوض الروح الرياضية...إلى آخر هذه المشاحنات الفرنسية التي لا تستهدف في الحقيقة المنافس البريطاني وحده لأن المقصود من حماية اللسان الفرنسي هو المزاحم الأمريكي الناطق باللغة الإنجليزية. في التسعينات تولى وزارة الثقافة و الإعلام في الحكومة الاشتراكية الفرنسية السيد / جاك لانج فلم يكتف بالاحتفاظ بالقانون المسمى قانون تاسكا، لكن زاد عليه قانون استثناء الإنتاج الثقافي الفرنسي من قائمة المواد التجارية المدرجة في قائمة منظمة التجارة العالمية، و بذلك تجاوز حماية اللغة الفرنسية إلى حماية المجتمع الفرنسي مما سماه بصراحة الغزو الثقافي الأمريكي المتمثل في الألعاب الإلكترونية و الأغاني و المسلسلات و البرمجيات القادمة من الولايات المتحدة الأمريكية. و بالطبع فإن قرارات كهذه تشحذ أسلحة العداء بين الحلفاء الغربيين لكنها لا تمنع المناورات. فالشريك الأمريكي في مجال اللغة و مجال الغزو الثقافي لديه ألف حيلة وحيلة للمراوغة و الالتفاف على قوانين تاسكا و جاك لانج. من ذلك مثلا التسامح الأمريكي مع المسؤولين من الشباب على الإنتاج الثقافي و الفني الأمريكي من شبكة إنترنت بلا مقابل، بينما تتصدى وزيرة الثقافة الفرنسية الراهنة )أودراي أزولاي) إلى مستعملي الشبكة العنكبوتية بالقوانين الزاجرة الرادعة البالغة حدود السجن لسنوات في حالة الاتجار بالإنتاج الثقافي المسروق من الشبكة. من الحقائق الثابتة في العقل الباطن للمجتمعات الأوروبية أن العرب في المشرق و المغرب هم أمة من الجنوب بمعنى أننا لديهم أمة نامية باللغة الدبلوماسية التي تعني المتخلفة، و لذلك لا مناص من محاولة تدجيننا إما داخل الفرنكوفونية و إما داخل الأنجلوفونية. فاللغة العربية لدى النخبة الأوروبية و في الخيال الشعبي الأوروبي العام لغة شبه ميتة. و لا يكفي أن ننكر نحن ذلك و نتمرد عليه ليكون أمرا لاغيا. فاللغات هي دائما في مستوى دفاع شعوبها عنها ، و نحن يعلم الله كم أهملنا أمر لغتنا و الترجمة منها و إليها( أسوأ إحصائيات الترجمة في العالم لدينا نحن العرب بعد أن كنا في العصر العباسي و الأندلسي في طليعة الأمم المترجمة بل و أنقذنا التراث اليوناني من التلف). فلا غرو اليوم أن يعتبرنا هؤلاء مجرد مناطق نفوذ للغاتهم أي في الواقع لمصالحهم التجارية و الإستراتيجية و الأمنية، إلى حين نصحو و لعل الصحوة قريبة لنصون لغتنا و ثقافتنا و هويتنا و مصيرنا من التهديد بالمسخ و الزوال. و نحن في تونس خاصة بعد الثورة يكرر البعض على مسامع الشعب شعار (النمط التونسي) و بدون وعي يتصورون تونس بلادا بلا هوية و بلا لغة رسمية و حتى بلا دين ! أي عكس ما يضمنه الدستور الجديد و القديم من انتماء حضاري. فالنمط التونسي في تقديرهم هو أن تكون تونس في مهب الرياح بلا بوصلة و لا ربان !