14 أكتوبر 2025

تسجيل

الشذا المتسامي

07 مارس 2014

الشذا المتضوع الذي يسمو بالروح ويحلق بها نحو الأعالي، أثار على الدوام حواس الإنسان وارتقى بمشاعره البدائية، ليكتشف لأول مرة ان هناك مصدرا للفرح والسرور غير تلبية الحاجات الفطرية.الزهور البرية والأعشاب الزكية الرائحة والأشجار العطرية المتناثرة في الطبيعة، كلها تدعو الإنسان لإطلاق العنان لحاسة الشم لاكتشاف عالم الروائح الجميلة من حوله.العطر الذي تعلم إنسان الحضارات الأولى كيف يستخلصه من الأزهار والورود ومن بعض الحيوانات، والأخشاب العطرية، حيث استخدم إنسان حضارات وادي الرافدين البخور الذي يعد الشّكل الأول للعطر، فقد كان يحرق أنواعاً من الراتنج والأخشاب العطرية المنقوعة بالزيت، ويتبخر بها ثم يقوم بفرك جسده بالخليط، هذا الإكتشاف المثير جعل الإنسان يستخدم العطر في الطقوس الدينية قبل ان يستخدمه لغرض التطيب والتجمل.وتبين الجداريات الفرعونية طرق استخلاص العطور، كما تتحدث الكتابات الهيروغليفية عن أهمية العطور في حياة المصريين القدماء، فقد كانت توضِع الأواني المطلية بالذهب والجرار المصنوعة من الفخار والمزينة بالعقيق الأبيض والمملوءة بالمواد العطرية في قبور الملوك والأمراء، واستخدمت هذه الزيوت العطرية في تحنيط الملك الشاب توت عنخ أمون، وكانت من القوة بحيث انتشر شذاها عندما فُتح قبر الملك بعد وفاته بآلاف السنين.وتتحدث جداريات معبد الملكة حتشبوت عن إنها قادتْ بعثات إستكشافية بحثا عن البخور والزهور والسّلعِ الثّمينةِ الأخرىِ في بلاد بونت، كما أمرت بإنشاء حديقةَ في قصرها مُلئت بأشجار البخور التي تم جلبها في هذه البعثاتِ.وقد سبقت سحابة العطر المنبعثة من الأشرعة المعطرة لسفينة الملكة الفاتنة كليوباترا، سبقت وصولها الى سواحل صقلية حتى فُتن بها مارك أنطونيو القيصر الروماني الجديد وذلك قبل أن يراها.أما الفينيقيون فعدوا التطيب بالعطور دليلاً على المستوى الاجتماعي الرفيع الذي يجلب الإحترام والإجلال. كذلك عشق الأغريق العطر والطيب بأنواعه حتى إعتبروا زهرة البنفسج رمزاً لمدينة أثينا. كما برع الرومان بخلط وصناعة أنواع جديدة من الروائح، وبلغ بهم الأمر من شدة عشقهم للعطور إنهم كانوا يمسحون أرضيات وأسوار القصور به.وللعرب مع العطور قصص عشق لا تنتهي فالورد والياسمين والبنفسج وزهر الليمون وخشب الصندل والمسك والعود والنعناع والخزامى والزنجبيل وغيرها والتي كانت تأتيهم مع القوافل القادمة من الشام واليمن، كلها كانت مصادر لإستخلاص العطر والدواء، حتى إشتهر العرب بماء ودهن الورد بين الأمم، وإزداد العرب عشقاً للعطر والطيب بعد بعثة الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم) حيث عُد الطيب من سنن الرسول الكريم الذي كان المسك يتضوع في مفارقه.وقد كان للعلماء العرب دور في إكتشاف طرق جديدة لإستخلاص العطور حتى إن إبن سينا نجح في إستخراج العطر من الورد بطريقة التقطير، كما وضع الكندي في كتابه (كيمياء العطور) قائمة لطرق إستخلاص ومزج العطور، التي يدخل في تركيبها المسك والعنبر كعنصر أساسي.وقد اكتشفت أوربا القرون الوسطى العطور من خلال العلاقات التجارية مع المسلمين ومن خلال الحروب الصليبية التي عرف الأوروبيون نتيجة لها الكثير من العلوم والفنون الإسلامية.أما في عصر النهضة الأوروبية فقد نشأت طبقة ماهرة من صناع العطور نجحت في جعل فرنسا تأخذ مكانة عالية في هذه الصناعة، ولعل عشق ملوك فرنسا للعطور أعطى دافعاً لتطور صناعة العطور الفرنسية، فقد كان الملك لويس الخامس عشر عاشقاً للعطور حتى إنه أمر أن تدهن عربته الملكية وأثاث قصره كل صباح بالعطور وكانت ملابسه تنقع بالعطر لعدة أيام، كما أمر بزراعة بعض المزارع بالنباتات العطرية، كذلك عرف عن نابوليون بونابرت أيضاً عشقه للعطور فقد كان يستخدم ستين زجاجة من عطر الياسمين في الشهر.وحتى يومنا هذا يسمو شذا العطر بأرواحنا مثلما كان يفعل باسلافنا في الأزمنة الغابرة.وجمعة معطرة.