14 سبتمبر 2025

تسجيل

موسم الهجرة إلى الله

07 فبراير 2024

مواسم الهجرة كثرت، هجرة كانت من الجنوب إلى الشمال فانقلبت تدريجيا من الشمال إلى الجنوب وهجرة كانت من الشرق إلى الغرب فصارت من الغرب إلى الشرق، وكلها هجرات لم تغن عن المهاجرين شيئا. لكن هجرة واحدة باقية هي التي فيها النجاة. إنها الهجرة إلى اليقظة، إلى اليقين، إلى الأعلى، وإنه موسم الهجرة إلى الله. عندما شرعت أكتب هذا المقال خطر لي أن أعنونه بـ "موسم الهجرة إلى الجنوب"، لكن بعد بحث وجيز اكتشفت أن كثيرين سبقوني إليه وربما أولهم، مارتن فوبينكا، الأديب التشيكي برواية بذاك العنوان، عام 1963، أي قبل ثلاث سنوات من صدور رواية الأديب العربي السوداني الراحل الطيب صالح، "موسم الهجرة إلى الشمال"، والتي ربما استلهم الطيب عنوانها من رواية فوبينكا، التي تتنبأ بانهيار حضارة الغرب عام 2096، على يد ثلة من البشر ترفض فساد تلك الحضارة وتنتصر عليها. وإذا كان فوبينكا رأى أن "الآخر" سينتصر على حضارة الغرب لأسباب أخلاقية وبيئية، فإن الطيب عرض علينا نوعا من الانتصار على الغرب بطريقته الخاصة. كانت "موسم الهجرة إلى الشمال" من أكثر القصص التي أثارت النقاش والجدل أيام كان جيلي في مقتبل العمر، أواسط السبعينيات وما بعدها. تلك الرواية كانت بشكل أو بآخر تؤجج في شباب ذلك الوقت الرغبة في الهجرة إلى الغرب وربما المرور بكل تجارب بطلها (مصطفى سعيد) وخاصة غزو المستعمر والانتصار عليه من خلال دحر نسائه في "معارك السرير" والدُخون والأضواء الخافتة. كنت أنا من ضمن الحالمين بالهجرة، ليس بالضرورة لكل الأهداف التي طمح إليها الآخرون، ولكن بعد نحو ربع قرن هنا في الشمال أشدد على أنه قد حان الوقت للهجرة العكسية إلى الجنوب، ومن الغرب إلى الشرق. فقد انهزم المستعمر وانكشفت سوءاته. ولا أبالغ بالقول إن أكبر مجهر كشف تلك السوءات كان مجهر كأس العالم الأخير الذي استضافته قطر نهاية 2022، إذ كان أول احتكاك كبير مباشر بين حشود غربية ومجتمع مسلم ربما يكون الأقرب إلى النموذج الصحيح. لقد انهزم المستعمر أمام النموذج القطري، النموذج الأقرب إلى دولة مسلمة في القرن الـ 21، حيث "يعيش الناس في وئام وسلام ورغد، ملابسهم نظيفة وبيوتهم نظيفة وشوارعهم نظيفة وأخلاقهم نظيفة، حتى أن لديهم شطافات في الحمامات، تخيلوا"، هكذا قال أحد زوار المونديال وقتها. وهو لا يعلم مثل كثيرين أن المسلمين هم أول من أدخل نظام الحمامات إلى البيوت وأوصلوا إليها المياه والشطافات، باعتراف اليونيسكو. فقد كانت قطر بكل سكانها الذين يقل عددهم عن 3 ملايين في مواجهة أكثر من 3 مليارات مشاهد ومهتم بكأس العالم. والنتيجة أن قطر بمساحتها الصغيرة وعدد ساكنيها القليل انتصرت على تلك المليارات وحققت انتصارا على الغرب وأوصلت رسالة انقطع وصولها منذ قرون. ولأن نموذج الدولة المسلمة المشرف لم يكن قد نضج كفاية في وقته فقد حلق الطيب صالح بخياله لخلق نموذج أو حالة ينتصر فيها الشرق على الغرب أو الجنوب على الشمال، وذلك في تجسيده لشخصية مصطفى سعيد الذي يقهر نساء الإنجليز في السرير. ولم يكن ذلك من فراغ. فقد تردد كثيرا في بعض الأدبيات وحتى الأعمال الدرامية الأمريكية أن نساء البيض كان لهن دور كبير في تحرر العبيد، نتيجة بطولات حققها السود مشابهة لـ "بطولات" مصطفى سعيد. وذهب أحدهم إلى القول: جزى الله خيرا نساء البيض فلولاهن لما تحرر العبيد في أمريكا وأوروبا، فعندما كان السادة البيض ينتهكون أجساد الإماء السود قهرا واستعبادا كانت نساء البيض تؤسس لسيادة الرجل الأسود على الأبيض في السرير أيضا، وينخرطن في المطالبة بإلغاء العبودية وإعلان أهلية الرجل الأسود للحياة حتى أكثر من الأبيض. ولا أدل على ذلك من استطلاع حديث لمعهد جالوب أظهر أن 94% من الأمريكيين يرحبون بالزواج المختلط، وأغلبه بين النساء البيض والرجال السود، بعدما كانت النسبة 4% عام 1961. ومرة أخرى أقول إن المستعمر انهزم في أرضه وأمام شعبه وحتى أمام من هاجروا إلى الشمال، واتضح للجميع زيف حضارته وفساد قيمه. ولم يعد ذلك المستعمر ينتصر إلا في أرضنا نحن نتيجة عملية استعباد سياسي لأنظمة حُكم زرعها بين أظهرنا منذ عقود طويلة. لقد انهزم المستعمر منذ زمن ولم يبق إلا أن يسلط الله عليه دابة تأكل منسأته التي يتكئ عليها. لقد انهزم ولا ينقص تأكيد هزيمته إلا الإعلان والإشهار. لقد انهزم المستعمر خيالا في رواية الطيب صالح، وانهزم أكاديميا في فكر كثيرين من أمثال المفكر العربي الفلسطيني إدوارد سعيد، الذي كان أهم مفكر عربي يواجه زيف الاستشراق الغربي ويفند أفكار الاستعلاء العنصري الأبيض بل كان من مؤسسي "دراسات ما بعد الاستعمار". وانهزم الغرب حقيقة أمام صمود المقاومة الفلسطينية في غزة، التي أظهرت على أرض الواقع إمكانية هزيمته بأبسط عدة وأقل عتاد. لكن رغم هذا الانتصار الظاهر تأتينا، من غزة، صور حزن ودمار تجعلنا نشعر بأننا نحتاج إلى هجرة أخرى وأخيرة. هجرة إلى الله هذا هو موسمها، لأنه في زمن الخذلان والتفريط في كل القيم يتيقن الإنسان أنه لا ملجأ ولا مهجر له إلا إلى الله، وأن لا هجرة إلى الشمال أو الغرب عادت تنفع من ضر أو تغني من فقر أو حتى تحمي من خطر. لقد انقضت كل المواسم، واستنفدنا كل الوجهات، مثلما فعل الخليل إبراهيم عليه السلام. ولم يعد لنا إلا أن نوجه وجوهنا إلى الله. ففروا إلى الله، وهاجروا إليه.