14 سبتمبر 2025
تسجيلمنذ ما يقرب من قرن، وقبل استقلال بعض الدول العربية من الاستعمار، برزت قبلها، فكرة القومية العربية على يد عدد من المفكرين والمصلحين العرب، وقد جاءت كدعوة كاستجابة ملحة لما أظهرته القومية الطورانية التركية، التي تماهت مع القومية الأوروبية في فكرتها العنصرية، تجاه العرب، ومحاولة جعلهم تابعين للقومية الطورانية التركية، التي انطلقت من نظرة قومية استعلائية لعنصرهم العرقي، وحاولت أن تقصي كل مقومات العرب الأساسية في الدولة العثمانية التي انهارت بعد الحرب العالمية الأولى بعد تحالفها مع ألمانيا في هذه الحرب، واقتربت من الفكر الأوروبي الذي ينطلق من تعصب عرقي للجنس الآري(سنناقش ذلك تالياً)، حيث عمل على هذا التوجه حزب الاتحاد والترقي القومي، ثم استكمل هذا التوجه أيضا بعد وصول كمال أتاتورك للحكم في تركيا بعد سقوط الخلافة الإسلامية، حيث ألغى أتاتورك اللغة العربية في المدارس ومحى الكثير مما يمثل العرب والمسلمين في تاريخهم إتباعا لما أقدمت عليه القومية الطورانية التركية وتقليدا للغرب في فكرهم، خاصة الرؤية العلمانية بعد إقصاء الكنيسة في الغرب الخ. كما أن التهديد للوجود العربي ثقافيا وفكريا، بدأ هذا أيضا كمخطط من الاستعمار الفرنسي والبريطاني في الكثير من البلدان العربية المستعمرة، خاصة في الجزائر ودول شمال إفريقيا، وشعر العرب أن قوميتهم العربية مهددة، ووجودهم كأمة ترتبط بكيان وهوية يتقلص بخطط معدة ومبرمجة، وعلى أعلى المستويات من المستعمرين بدعوى التقدم والتمدن، وهدفها الذوبان والتلاشي في الفكر الغربي، حيث تعرض الوجود العربي كأمة للإقصاء والانسلاخ بالتدريج من خلال التعليم والفكر والثقافة بوسائل متعددة، مثل إلغاء الهوية والثقافة والفكر في الكثير من بلاد العرب المستعمرة.. يقول المفكر الراحل د/ محمد عابد الجابري في كتابه(مسألة الهوية..العروبة والإسلام والغرب)، أن الدلالة التي انطلق منها العرب، لاستنهاض الهمم لعروبتهم وقوميتهم "في الأدبيات العربية النهضوية المبكرة، عبارات مثل" أيها العرب انهضوا" أو مثل" العروبة تناديكم" الخ: ومع ذلك فقد لا نخطئ كثيرا في التقدير إذا نحن قلنا إن المضمون الحديث والمعاصر لكلمتي"عرب" و"عروبة"، المرتبط بالنهضة، لم يبدأ في الذيوع والانتشار إلا بعد منتصف القرن الماضي، وقد ظهر ذلك أولاً في لبنان وسوريا وفلسطين. والأهم من هذا كله أن نلاحظ أن هذين المفهومين أنما كانا يستمدان معناهما من رد الفعل ضد "الآخر" الذي كان يهدد الوجود العربي ككيان متميز داخل الإمبراطورية العثمانية، وكان هذا الآخر هم الأتراك الذين كانوا يطمحون إلى دمج القوميات الأخرى المتعايشة داخل الإمبراطورية التركية الطورانية. مما عرف باسم سياسة "التتريك". ولعل ما يجدر التأكيد عليه،كما يرى د/الجابري، هنا أن انبعاث كلمتي "عرب" و"عروبة" كمفهومين نهضويين قوميين لم يكن موجهاً في المرحلة الأولى ضد الأتراك بوصفهم يحكمون العرب باسم الخلافة الإسلامية بل بوصفهم جماعة انبعث في صفوفها وعي قومي(جماعة تركيا الفتاة) يقوم على فصل العنصر التركي وتفضيله على العناصر الأخرى داخل الإمبراطورية العثمانية والطموح إلى تسويده عليها وجعله يحتويها احتواء". وليس صحيحاً القول إن الفكر القومي العربي ليست له أي جذور في التراث العربي وأنه مجرد فكرة غربية المنشأ بكاملها الخ كما قال أحد الكتاب الليبراليين. لأن الفكرة القومية كمصطلح لها سند متأصل في التراث العربي. فعبارة "قومية" مستمدة من "قوم"، وفي هذا الصدد يقول د/ محمد عمارة: "إن "القوم"...الذي اشتقت منه "القومية" - هو مصطلح "عربي - قرآني"، وفي القرآن الكريم حديث عن العرب، قوم الرسول (صلى الله عليه وسلم) [وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون]. فقوم الإنسان هم الدائمو الإقامة معه، والذين تربطهم به الروابط التي اصطلح على تسميتها "سمات القومية"، وهي التي تحدد اللغة دائرتها وخريطتها... فالقومية، في الرؤية الإسلامية، هي الدائرة اللغوية في إطار الانتماء الإسلامي الأكبر... وعالمية الإسلام لا بد من أن تشمل أقواماً تميزهم اللغات والألسنة [ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين]... فإذا كان اختلاف اللغات سنة وآية من سنن الله وآياته، فلا بد من أن تشمل عالمية الإسلام أقواماً وقوميات تتمايز لغوياً - أي قومياً- في إطار محيط ودائرة الانتماء الإسلامي الأول..".. فالقومية العربية لم تكن منطلقها عرقيا، ولا عنصريا، وإنما انطبق هذا المفهوم لمواجهة تهديد الوجود القومي العربي بعد ظهور النزعات القومية الأخرى، والتهديد الاستعماري أيضا، ومحاولة انصهاره في القومية الطورانية، كما أشرنا آنفاً، لكن النزعة القومية الأوروبية، تنطلق من نظرة عرقية للجنس الآري الذي اعتبر أن الجنس الأكثر تفوقا ونبوغاً وحضارة، بالقياس إلى الأمم الأخرى، وهذه للأسف قالها مفكرون وفلاسفة كبار هذه النظريات الشوفينية العرقية والقول بتفوقها على كل الأعراق والأجناس، لا تلتقي مع الفكر القومي العربي الذي جاءت كدعوة إليه من منطقات فكرية وثقافية لمواجهة الخطر الذي جاء يهدد الأمة من الذوبان والإقصاء، وأيضا من التهديد الاستعماري الذي حاول فعليا، أن يستأصل فكر الأمة وقيمها ولغتها في أغلب الدول العربية، وهذا ما استنفر العديد من المفكرين والمصلحين العرب والمسلمين، لمواجهة ما ترمي إليه هذه الدوائر التي تحركت من خلال بعض المستشرقين، الذين حاولوا أن يقللوا من أمة العرب وتاريخهم ولغتهم، كما غرس الاستعمار بعضا من أبناء جلدتنا في أن يلعبوا الدور نفسه، من خلال دعوات نفسها، والتقليل من العرب وتاريخهم وقومتهم ودينهم ـ وقد سماهم المفكر العربي أنور عبد الملك ـ بـ (العملاء الحضاريين الغرب)، فدعوا للفرعونية والفينيقية والأشورية، وغيرها من الدعوات العنصرية،وسمّى البعض من هؤلاء العرب بالمستعمرين!!:وقاموا بنبش الأفكار وتاريخ العرقيات والشعوبية، لطمس تاريخ الأمة العربية، وإعادة إحيائها مرة كرد فعل على اليقظة العربية والانتماء القومي، وتشجيع اللهجات المحلية، كبديل عن اللغة العربية الجامعة لوحدة الأمة العربية، كل هذا كان لأهداف ومرام لطمس ومحو تاريخ هذه الأمة، صحيح أن بعض المسيحيين ـ وليسوا جميعهم ـ شايعو هذه الدعوات، لكن المارونيين هم من شجعوا على الدعوة للانعزالية، والدعوات التي تلتقي مع أهداف الاستعمار ومخططاته، لكن للحق أن أغلب المسيحيين العرب، دافعوا عن العروبة والعربية، وكان لهم إسهام مشرّف في الدفاع عن القومية العربية، وعن اللغة العربية، وكان منهم علماء كبار في اللغة والتاريخ والفكر، وكان يقول بعضهم، نحن مسيحيين دينا، ومسلمين ثقافة، وهذا بحق كان له دور رائد في مواجهة الدعوات الانعزالية والعنصرية تجاه العرب والمسلمين. فالانتماء القومي عند العرب والمسلمين، جاء دفاعا عن وجود الأمة ولغتها ودينها وتاريخها، واستنهاضا للهمم من خلال اليقظة العربية، وإن كانت لم تحقق كل الأهداف المبتغاة، للخروج من الواقع العربي المتردي بعد سقوط الدولة العثمانية، وجاء الاستعمار ليكرس التخلف وتدمير مقومات الوجود وتحديات النهوض، لكن الأمة حافظت على نفسها من الانصهار والتلاشي، وحققت وجودها الفعلي كأمة لم تستطع تلك الدعوات أن تحقق أهدافها ومراميها البعيدة.