15 سبتمبر 2025
تسجيلتميز الأسبوع الماضي بالتحولات الكبرى التي تطرأ على حياة الأمم الغربية فتغيرها وتدعوها بنداء التاريخ إلى قراءة الأحداث بعيون مختلفة، كما أنها أحداث تزلزل شعوبنا نحن ونادرا ما نتأملها ونعتبر بها. وكان الأسبوع كذلك هزة عاتية للقوى العالمية بقوة سبعة على ميزان ريختر الحضاري، بدأ العقلاء في الأمم الطاغية يفكون ألغازها. هذا المنعرج الأخطر الذي يهدد مصيرنا بالانفلات وشعوبنا بفقدان البوصلة، دون أن نكون قد تهيأنا نحن ضحاياه لتحمل النتائج ومعالجة التداعيات. والمؤشرات على هذه العواصف الغربية التي تهب على المجتمعات العربية كثيرة لعل أهمها تصويت الكونجرس الأمريكي يوم الأربعاء الماضي على التمديد عشر سنوات في فرض العقوبات المسلطة على إيران تمهيدا لرئاسة دونالد ترامب الذي وعد بإلغاء اتفاق 14 يوليو 2015 الموقع بين إيران والحلفاء، مؤذنا بالزمن الجديد القادم على الأمة فيما يسمى بالشرق الأوسط. مع العلم أن الاتفاق المذكور ليس شأنا أمريكيا داخليا بل وقعته ست دول وصدقت عليه منظمة الأمم المتحدة، ولكن يبدو أن هذه البنود من القانون الدولي تتعامل معها الإدارة الأمريكي كتفاصيل ليست ذات قيمة! فالمتوقع هو ما أعلن عنه المرشد الأعلى للثورة من مواصلة طهران برنامجها النووي من دون أي رقابة وتداعيات هذا المنعرج المفاجئ على دول الجوار. والمؤشر الثاني للعاصفة هو انزلاق الأزمة السورية إلى مربع المجهول وسياسة الأرض المحروقة مع ما يشهده العالم من تدمير حلب بعد أن كانت درة التاج الإسلامي: نُثِرَتْ على جنباتك الشهبُ........... فدعيت بالشهباء يا حلبُفلم يعد المتحاربون على أرض سوريا من عرب وأغراب يدركون لماذا ومن يحاربون؛ لأن ساحات الوغى المتعددة لم تعد واضحة ولا يعرف فيها من الحليف ومن العدو ومن البريء ومن المذنب، بل لم يعد لدى الجميع تعريف متفق عليه لما يسمى الإرهاب وتحديد من الذي يقوم بمقاومة الإرهاب. ثم إن الأخطر في المشهد السوري هو أن جسر الاتفاق المؤقت بين واشنطن وموسكو أنقطع وانعدمت شبه الثقة المصلحية العابرة التي نشأت بين العملاقين لتحل محلها اتهامات وتصادمات، لعل سببها الأول اغتنام بوتين للحالة الانتخابية المعقدة التي تمر بها الولايات المتحدة وميل الرئيس المنتخب ترامب إلى اعتبار الروس أصدقاء وحلفاء ما داموا كما قال هو يقتلون جنود الدولة الإسلامية داعش. من جهة أخرى صدر هذه الأيام ملف نشرته "نيويورك تايمز" كتبه "سكوت أندرسون" بعنوان: Fractured lands: how the Arab world came apart?(الأرض المجزأة: كيف تشتت العالم العربي؟) ويؤرخ كاتب الملف لبداية انفجار العالم العربي إلى دويلات ومقاطعات عرقية وطائفية وسياسية بمحطة احتلال العراق (9 أبريل 2003) حين أخطأت الولايات المتحدة، وعوضا عن أن تحطم النظام كما زعمت وأعلنت قامت بتحطيم العراق كدولة ومؤسسات وحضارة، وأبرز خطيئة كانت هي قرار حل "بريمر" للجيش العراقي فكانت النتيجة الطبيعية أن يعيد هذا الجيش تشكله في الإطار الوحيد المتوفر وهو إطار العمل السري المسلح وتحت غطاء عقائدي ديني لأنه هو المتاح، ومن هنا تكَوَّن جنين الحركات العنيفة في رحم الأخطاء والخيارات الأمريكية، ونشأ المولود في شكل متطور تحت تسمية "داعش". وشكل في الحقيقة صرخة فزع انفجرت بسببه الأزمة العراقية العميقة وأصل الداء جاء من تخبط الإدارة الأمريكية التي لم تحطط قبل التاسع من أبريل 2003 لما بعدها من المراحل، فكانت مهمة "بريمر" إسقاط النظام البعثي ثم أصبحت بالرغم عنه تدمير دولة العراق، وبالفعل لم يبق شيء يذكر من الدولة أو من الجيش أو من البنية التحتية أو من المجتمع العراقي أو من التعليم أو من التكنولوجيا أو من المتاحف والمصانع، وبالطبع لم يبق شيء من التماسك الطائفي الذي صمد في العراق حتى في أدق المراحل وأحلك الظروف. وهذه الحقائق المريرة كان قد عددها "جامس بيكر" في تقريره الشهير منذ عشر سنوات بالضبط (ديسمبر 2006) حين أكد العمى السياسي للإدارة الأمريكية وفتح أبواب الجحيم في الشرق الأوسط. فالتقرير الذي وضعه بيكر لم يأت بأمور خارقة أو اكتشافات مبتكرة بل إنه نقل الواقع بأمانة، ليس من أجل عيون العراقيين بل من أجل حماية مصالح الولايات المتحدة الأمريكية المهددة بشكل جدي من تعفن الوضع وتفاقم الأزمة في العراق كما نراها اليوم بين السنة والشيعة والأكراد، والحيص بيص الواقع فيما يسمى اختزالا بتحرير الموصل (مثل تحرير حلب). أما في فلسطين فالبهتان الدولي متواصل بل الجهود الشريرة متضافرة لإدخال الخناس الوسواس في معابر الضفة والقطاع ودق إسفين الفتنة والفوضى بين أبناء الشعب كما ظهر في الانتخابات الأخيرة. هذا هو المشهد العربي اليوم، ويخشى أن تبقى المنطقة كلها على كف لا عفريت واحد بل مجموعة عفاريت. والعفريت الأشرس هو العفريت الداخلي أي الانقسام والفرقة والعداوات المتفاقمة والحسابات الأنانية والمصالح الانفرادية والقضايا الهامشية، في حين يخطط أعداء الأمة في الظلام لضرب جميع العرب بلا استثناء، مهما اعتقد البعض منا بأنه في مأمن وهو في الحقيقة المستهدف الأول وعلى مرمى قريب من النار العدوة. فاجتمعوا على كلمة سواء يرحمكم الله، قبل أن ينفخ في الصور!