14 سبتمبر 2025
تسجيلوما زلنا في نشرة أخبار فلسطين من غزة. مضى ما شهر على بدء معركة طوفان الأقصى، وما زالت المعركة مستمرة في غزة بل وفي فلسطين كلها. وما زلنا نعيش دور المتفرجين على ما يحدث هناك، رغم أننا وعلى البعد جزء لا يتجرأ مما يحدث. فالمقاومة في غزة تقوم بالأدوار كلها بالنيابة عنا. تقاتل وتدافع وتحرر وتصور وتوثق وتحاول أن تتواصل مع العالم كله بمعجزات لا يعرف أسرارها سوى الشعب الفلسطيني الجبار. والمقاومة تقوم بكل ذلك بعفوية القادرين على الفعل في اللحظة المناسبة الواثقين من أنفسهم ومن قدرتهم على الصمود لآخر نفس، وبأسلوبهم الخاص في العيش على حافة الخطر لأنهم ببساطة لا يرونه خطرا بقدر ما يرونه الأسلوب الوحيد للعيش في غزة بعزة وكرامة. إنها مقاومة غزة كما عرفها العالم منذ أن أصبحت غزة عنوانا للمقاومة في العالم كله. لا أعني المقاومة المسلحة وكتائب القسام وحدها، بل إن كل ما ومن في غزة مقاوم بدرجة أو بأخرى. الكبار والصغار، والمقاتلون المدربون على حمل السلاح، والآخرون في بيتهم ومقرات أعمالهم ومدارسهم ومساجدهم وكنائسهم والشوارع والحقول. في كل مكان في غزة الناس مقاومون على سبيل الأمل العظيم. ذلك أن أهل غزة يجيدون ممارسة الأمل كما يجيدون المقاومة، ويجيدون الحياة كما يقبلون على الموت عندما يكون لا بد منه في الطريق الى الحرية. أتابع المقاطع التي تصور في غزة، ونتشاركها كما نتشارك حياة تبدو عادية بالنسبة لهم ولكنها ليست كذلك. يتناولون إفطارهم تحت وابل من القنابل الفسفورية، ويرتبون بيوتهم وغرفهم التي ستهدم بعد قليل فوق رؤوسهم فينجو منهم من ينجو ويقضي نحبه تحت الأنقاض من يذهب شهيدا. أتابع مقاطع الصغار فينخلع قلبي كلما ارتجف أحدهم صامتا أمام الكاميرا قبل أن يعي ما يحدث أمامه في عالم لا يراه إلا طفلا مهيئا للموت!. أتابع مقاطع الأمهات الفلسطينيات تحديدا، ويأسرني فيهن هذا الثبات العجيب. قبل قليل رأيت مقطعا لسيدة من غزة وهي تحكي عن ابنها الذي استشهد قبل ساعات فقط. تحكي بثابت لا يشبه أي ثبات آخر كيف كان بطلا لآخر لحظة، وأن زملاءه الذين رافقوه في مهمته النضالية حكوا لها تفاصيل مهمته الأخيرة. قالت إنه كان دائما متشوقا للحظة استشهاده وكان يتوقع أنه سيكون بلا قبر بل إن أسماك البحر ستلتهم جسده، لأنه كان يعمل في القوة البحرية، فلا بد إذن أنه سيموت في البحر. لم تخبرنا السيدة التي كانت تواجه عدسة الكاميرا لتوثق دقائق استشهاد فلذة كبدها إن كان فعلا قد استشهد في البحر أم في البر لكنها كانت تردد «الحمد لله» كثيرا لأنه كان مقاتلا شرسا كما وصفته وأنه مات شهيدا كما اشتهى. مقاطع أخرى كثيرة لسيدات فقدن أبناءهن أو أزواجهن أو بيوتهن ولكنهن رغم الألم والحسرة في القلوب، كن صابرات غير معترضات على قضاء الله وقدره، بل كن فخورات بأنهم ذهبوا في سبيل الله ودفاعا عن فلسطين كلها، فأعرف من الذي يربي أبطال المقاومة في غزة بهذه الروح المتأبية على الهزيمة. هذه المشاهد كانت بالنسبة لي أقسى كثيرا من مشاهد الجثث المقطعة والمحترقة بنيران الصهاينة، وحتى إنها أشد قسوة من مشاهد الأطفال وهم يرتجفون من الهلع وقد غطت الدماء وجوههم. ففي ذلك الحزن الشفيف الذي لا يريد أن يتبدى للآخرين عبر كلمات الامهات، مواربة نوع من القسوة على من يراه. وكلنا نراه يوميا على الشاشات بمنتهى العجز عن الفعل الحقيقي. الأمهات اللواتي يذهب أبناؤهن إلى الموت المشتهى استشهادا في سبيل ما يؤمنون به، لا يكذبن أبدا. يتألمن ويحزنّ وتذوب أكبادهن كمدا، لكن هذا لا يكسر فيهن الرغبة في العلو والسمو حتى حدود السماء. وهذا أحد أسرار الأمهات في غزة، بل وفي فلسطين كلها.