12 سبتمبر 2025
تسجيلبعدما وصل العقل العربي المسلم إلى قمة الإبداع الحضاري في القرون الأولى، سنجد أن آثار ضربات قوى الإرجاف المدمرة عليه ستبدأ في الظهور، في نهاية القرن الخامس. وذلك عندما ستبدأ مظاهر «الوهن» التي مارسها بعض خلفاء بني أمية وبني العباس تترك آثارها على مسيرة تشكيل ذلك العقل، ولتبدأ مراحل الانهيار مع قدوم الاحتلال الصليبي ثم التتري. فبابتعاد العقل العربي المسلم عن المنهج القويم تسارع انفراط عقد أفكاره، وصار تدبيره من وضعه وليس من وحيه. وكان من تداعيات ذلك اسْتِعار نوبات الصراع على الحكم بين أفراد الأسرة الحاكمة الواحدة، في نظام الملك العضود. وستخلق هذه الآفة جرائم مزمنة في الكيان الإسلامي، كلها نتيجة الفكر الوضعي، منها جريمة سُميت في زمن السلطنة العثمانية «قانون قتل الإخوة»، وإن كانت ممارستها قد حدثت فعليا في كل الدول التي شهدها التاريخ الإسلامي. وذلك على خلافٍ إزاء حقيقة ذاك القانون وتفسيره، وعلى نسبته إلى السلطان محمد الفاتح، وفق كتاب «تاريخ الدولة العلية» للسياسي المصري الراحل محمد فريد. كما سيُنسب إلى الفاتح أيضا أنه هو أول من عمل بقانون ما يسمى «ضريبة الدم في الحريم» أي ألا يتزوج السلاطين وأن يتخذوا جواريهم محظيات ينجبون منهن أبناءهم، حتى كان آخر سلطان أمه ليست أجنبية هو سليمان القانوني. وأرجع مؤرخون نظام المحظيات ذاك إلى هزيمة بايزيد الأول على يد تيمورلنك (1402) الذي جعل زوجة بايزيد تخدمه عارية في حفل انتصاره، وجعل بايزيد يموت كمدا في الأسر. وبمقتضى «قانون قتل الإخوة»، ونظام آخر مخفف سُمي «شمشيرلك» أو «نظام الأقفاص»، (بمقتضاه بدأ منع الأمراء من تولي الإمارات المختلفة في الدولة للتدرب على الحكم، وحبسهم في أجنحة داخل القصور حتى الموت أو ربما تولي الحكم، وفقا لكتاب تشكيلات السراي، للمؤرخ إسماعيل حقي)، استباح سلاطين وخلفاء أرواح أعداد كبيرة من الأمراء بلا ذنب ولا جريرة، حتى نضب معين الحكام الصالحين للحكم وصار الأمر للحريم. وقد صَبَغَت نوبات الصراع على الحكم وإدارتها بمكائد النساء، ودسائس الوشاة والاغتيالات، فتراتٍ طويلة من حكم المُلك العضود، أدخلت دولة الإسلام في عصور ظلام طويلة. وكانت حدتها تتزايد بمرور الوقت. فقد كان الخلفاء والسلاطين يتولون السلطة أطفالا أو صغارا، ويموتون أو يقتلون صغارا أيضا، مما فت في عضد الدولة وأشاع فيها الفوضى. مثلا، في أواخر دولة السلاجقة، وبعد وفاة ملكشاه ابن ألب أرسلان، تولى ابنه محمود ذو السنوات الأربع، فملكت أمه توركان زمام أموره وخاضت في كثير من المكائد ضد إخوته وأقربائه من أجل تثبيت ملكه. وقُتل في ذلك كثير من الأمراء وغيرهم، بل هي ذاتها وابنها الصغير، وفق «الكامل في التاريخ» لابن الأثير. بل إن مكائد توركان كان من ضحاياها الوزير نظام المُلك، كونه انتقد نفوذها في كتابه الشهير في فنون الحكم «سياست نامه» (سيَر الملوك). وورد أن توركان تعاونت مع الحشاشين لقتله. وفي عصور لاحقة تفاقمت الأمور على نحو أخطر. ولا يوضحها بجلاء إلا مثال «السلطانة صفية»، التي تُلخص قصتها كيف أن السلطنة العثمانية في فترات طويلة، وخصوصا بعد رحيل السلطان القانوني، انفرد بإدارتها نساء الحرملك وخُلصاؤهن. صفية تلك كانت جارية من أصل أوروبي. اشترتها إحدى «الجواري السلطانات» عام 1563، وستصبح لاحقا محظية للسلطان مراد الثالث. ولتكون هي المتصرفة الوحيدة في السلطنة ستقوم صفية بقتل 18 وفي قول آخر 19 من أبناء السلطان الذكور حتى يخلو المسرح لابنها محمد الثالث لتولي العرش. بل قيل إنها قتلت نحو 20 من بنات مراد الثالث لنفس السبب. وقد فعلت ذلك بمساعدة المندسين في القصر، والأهم بضعف السلطان أمامها بسبب عشقه لها! (الوهن). وذكر مؤرخون عدة، منهم يلمظ أوزتونا، إنها هي التي كانت وراء «نظام الأقفاص». لكن صفية لم تكن بدعا في ذلك فقد سبقتها خورم محظية القانوني، ونوبارنو محظية ابنه سليم الثاني، أم زوجها مراد الثالث، في فعل أمور مشابهة. بل إن صفية تلك والرواية ما زالت ليلمظ أوزتونا ستكون وراء منح بريطانيا تسهيلات وامتيازات تجارية في الموانئ التركية ستكون سببا في اتساع الإمبراطورية البريطانية وأفول العثمانية. وهذه لحظة تاريخية مهمة توضح أحد أهم أسباب التراجع الإسلامي، لم يتوقف عندها الباحثون بما يكفي أيضا. هنا نستشهد على ما تقدم بكتاب (إسماعيل ياغي، الدولة العثمانية في التاريخ الإسلامي الحديث) الذي يقول: بداية انهيار الدولة العثمانية كانت في حقبة السلطان القانوني... بعدما شهدت السلطنة تراجعا كبيرا على كل المستويات لأكثر من قرنين اعتلى خلالها العرش 17 سلطاناً، حكم بعضهم لفترة وجيزة، واعتلى بعضهم العرش وهم أطفال. ويضيف: وكان صغر أعمار بعض السلاطين في تلك الحقبة فرصة لحكم النساء (حريم السلطان) وسيطرتهن على شؤون الدولة ما أدى لضعف الجيش العثماني نتيجة عدم قيادة السلاطين للجيوش كما كان في الماضي. وضعفت الدولة في ظل انغماس الكثير من السلاطين في الملذات وافتقارهم للكفاءة وانتشار الفساد داخل الجيش الانكشاري». تلك الانكشارية سيكون لها دور خطير في مهزلة التلاعب بالسلاطين، انتقاما فيما يبدو لجريمة «العزوبية»، التي ارتكبت بحقهم. وللحديث صلة.