14 سبتمبر 2025

تسجيل

طه حسين يصحح انحراف الربيع العربي

06 أغسطس 2014

يعيش العرب منعطفا خطيرا من منعطفات التاريخ و بالأمس فقط أحصيت عدد شهداء غزة الذين يربون على الألفين و ضحايا العنف في سوريا و ليبيا و تونس و مصر واليمن فأيقنت كما أيقن الناس أن ما يسمى الربيع العربي مهدد بانحراف نحو المجهول و باختطاف شهادة الشهداء ليتحول العالم العربي إلى بؤرة فوضى. وعدت إلى بعض كتب حكماء العرب السابقين لعلها تمنحني قبسا من نور و نار. صحيح أن العلماء ورثة الأنبياء لا في الرسالة فهي حكر على أنبياء الله تعالى إلى عباده و لكن الله سبحانه قال في كتابه الحكيم : قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون (الزمر 9). و من الذين يعلمون سواء اتفقنا معهم أو اختلفنا أهل الأدب العربي والذين أرخوا لمجد المسلمين والذين جاسوا خلال تاريخ الأمة الإسلامية منذ فجر الرسالة إلى الفتنة الكبرى إلى الفتوحات و من بين هؤلاء شيخان من شيوخ الأدب هما عباس محمود العقاد بعبقرياته الشهيرة و طه حسين بروائعه التاريخية المعروفة رغم ما انتقدوه فيه عن كتاب (الشعر الجاهلي). و أنا حين أيأس من أدب المعاصرين و جفاف الفكر الحديث أعود بشغف إلى مطالعة هذين الرجلين مطمئنا إلى ما أجده لديهما من دسم الغذاء الفكري و ثري البناء اللغوي و متعة المعرفة التاريخية قبل أن يتحول الفكر في عصرنا إلى تجارة و المعرفة إلى موالاة سياسية. و أحيانا أعثر على كنز دفين في صفحات أحد الكتب القديمة التي أحرص على الاحتفاظ بها في مكتبتي المتواضعة رغم غزو الشبكة العنكبوتية و طغيان السرعة أي (الفاست فكر على غرار الفاست فود) فأجلس لأعيد قراءة كتاب أو بعض كتاب كنت طالعته سنوات المراهقة و الشباب و أستأنس برأي عبقري ما تزال حرارة الحقيقة فيه حية حارقة و لم يطفأ الزمن الدوار لهيبها فأحمد الله على نعمة استمرار البصر لدي والبصيرة و أنهل من هذا النهر المبارك الطامي. أخر ما اكتشفت في كتاب لعميد الأدب العربي طه حسين (أحاديث) هو حديث بعنوان (صريع الحب و البغض) كتبه في ديسمبر 1963 منذ أكثر من نصف قرن حول انتحار وزير فرنسي اشتراكي هو على ما أذكر (روجيه سالنغرو) عندما أكلت الصحف لحمه حيا و شككت في وطنيته و حقيقة مقاومته للألمان النازيين فاستقال من الحكومة ثم انتهى به الأمر إلى الانتحار فتناول طه حسين قلمه ليحلل ظاهرة الانفلات الإعلامي الذي يشهر بالناس من دون حجة متعللا بحرية التعبير و يقول طه حسين في هذا الباب كلاما اعتبرته أنا بعد نصف قرن أروع و أصدق تحليل للانفلات الإعلامي الذي شمل وسائل الاتصال العربية منذ 2011 عندما انطلقت الألسن بالكلام فجأة و بعد طول سكات فرضته الأنظمة القمعية. يقول طه حسين عن انتحار ذلك الوزير المضطهد : "ذهب الرجل ضحية حرية الرأي أو ضحية الإسراف في حرية الرأي فليس عدو الحرية من ينصب لها الحرب و يفرض عليها الأغلال والقيود وحده و لكن للحرية عدوا أخر ليس أقل شرا و لا أهون شأنا من هذا الطاغية المستبد وهو هذا الذي يتجاوز بها الحدود و يخرجها عن طورها المعقول ويحولها أداة للشر و سبيلا إلى الفساد". و يواصل عميد الأدب العربي تحليله لظاهرة الإسراف في الحرية لينتقل من الخاص الذي أودى بحياة الوزير إلى العام الذي يخرب الديمقراطية بالإساءة في استعمالها و التعدي على أصولها فيقول: "تشهد أوروبا هذه الأيام و يشهد العالم معها هذه الحرية البائسة يعذبها أعداؤها ألوانا من العذاب. أولائك يقيدونها و يقيمون الأسوار الصفيقة بينها و بين الناس في شعوب كثيرة من الأرض و هؤلاء يستغلونها و يسرفون في استغلالها فيحررونها من كل قانون و يطلقونها من كل عقال و يشيعون فيها جنونا ينتهي إلى الإجرام واقتراف الآثام...". و طه حسين هنا كأنما عاش مغامرات الربيع العربي و عايش سوء استعمال الحرية للانقضاض على أعراض الناس و تجريمهم دون برهان من منطلق أن لدينا حرية التعبير وهي حق يصبح باطلا لو إنحرفنا به عن غاياته السامية و أهدافه النبيلة! بينما الحرية الحق هي المحاطة بسياج المسؤولية. إقرأوا معي طه حسين يقول:" فأيهما خير؟ نظام يغل الصحافة و يقتل الأقلام و يكبح المعارضة كبحا و يميت الناس غيضا بما يضطرب في صدورهم من الآراء و ما يغلي في رؤوسهم من الخواطر، أم نظام يرسل الصحافة على حريتها و الأقلام على سجيتها و الألسنة على طبيعتها فيكتب الناس من غير حساب و يقول الناس في غير رعاية للحق و العدل؟ أيهما خير! نظام السلطة العنيفة التي ترد الناس إلى ذلة كانوا يظنون أن عصرها انقضى أم نظام الحرية المطلقة الذي يرد الناس إلى فوضى كانوا يظنون أن عصرها انقضى أيضا؟ كلا النظامين شر من غير شك وما أظن إلا أن الناس جميعا يعرفون ذلك و ما أظن إلا أن كل فرد واحد فيما بينه و بين نفسه يود لو استطاعت الإنسانية أن تصل إلى نظام وسط لا يلغي الحرية فيلغي معها كرامة الإنسان و لا تطغى الحرية فتطغى معها الأهواء و الشهوات. و لكن وقد فسد عليها أمرها و اختل التوازن بين قواها و لا حظ فيها للروية و التدبير!"في الأخير يخرج عميد الأدب العربي رحمة الله عليه بحكمة و اعتبار كأنما هو يعيش بيننا عام 2014 شاهدا أمينا على انحراف مجتمعاتنا العربية من القمع القديم إلى القمع الجديد و من الاستبداد الأول إلى الاستبداد الثاني و هو ما أطلقت عليه أنا منذ بداية ما يسمى الربيع نعت (من الاستبداد إلى الفوضى) يقول طه حسين:" هل يتاح لنا نحن الشرقيين الناشئين في الديمقراطية أن ننتفع بمنحة الديمقراطية الأوروبية و أن نسلك بديمقراطيتنا الجديدة طريقا وسطا أمنة تعصمها من الطغيان كما تعصمها من الفوضى، تعصمها من أولئك الذين يصبون العذاب على الناس لأنهم يريدون أن يكونوا أحرارا و تعصمهم من أولئك الذين يسرفون في استعمال حقهم من حرية القول فيدفعون الناس إلى اليأس ثم إلى الموت".وأذكر لكم كلمة قالها الرئيس الفرنسي الأسبق (فرنسوا ميتران) حين انتحر رئيس حكومته الأسبق (بيار بيريغوفوا) لنفس الأسباب عندما انهالت عليه الصحافة تنكيلا قال (ميتران) : "لقد رمينا لحمه للكلاب تنهشه!" هذه بعض درر سنية من حكمة عميد الأدب العربي طيب الله ثراه و كأني به يعيش بيننا اليوم و يمشي في أسواقنا ويتفاعل مع محنتنا الراهنة وهي محنة التجاوزات التي ابتليت بها مجتمعاتنا حين انتقلت بلا روية و لا تمهيد من عهد قمع الحريات إلى عهد انفلاتها و من زمن الطغيان إلى زمن ترك الحبل على الغارب وهو داء في الحقيقة لم تنج منه أية ثورة و يكفي أن تذكروا الأرواح التي أزهقت في دوامة الثورات حين أخذ بعض الناس بذنوب لم يقترفوها و جندلهم الرصاص بغير حق مثلما وقع فيما سمي ثورة العراق يوليو (جويلية) 1958 عندما قتل عبد الكريم قاسم ملك العراق فيصل و رئيس حكومته نوري السعيد و أفراد عائلتيهما و سحلوهم في شوارع بغداد ثم دارت الدوائر على عبد الكريم قاسم فقتله المنقلبون عليه و سحلوه و جاء الدور على من بعدهم إلى اليوم و في سوريا أشياء مشابهة و في ليبيا إلى اليوم. اللهم يا رب العالمين قنا عذاب الظلم و الظالمين و اهد شعوبنا إلى سبيل دولة المؤسسات لا دولة الأمزجة بجاه رسولك الأمين و كتابك المبين آمين.