15 سبتمبر 2025
تسجيليأتي رمضان هذا العام على العالم العربي في ظل تطورات تاريخية يشهدها تنبئ بتغييرات بالغة الدلالة ليس فقط على مستوى الدول العربية ولكن أيضا على المستوى الدولي. فالثورات التي شهدتها وما زالت تشهدها العديد من هذه الدول العربية تؤكد أن زمنا عربيا جديدا يلوح في الأفق يختلف تماما عن ذلك الزمن العربي الذي بدأ منذ منتصف القرن العشرين وحتى بداية العام الجاري موعد انطلاق تلك الثورات. ملامح هذا الزمن العربي الجديد تشتمل على قيم الحرية والعدالة والمساواة أو ما أصبح يعرف بقيم الديمقراطية وحقوق الإنسان التي غابت طويلا عن الأرض العربية بفعل قوى داخلية وخارجية لم ترد لهذا الوطن الكبير أن يتمتع بهذه الحقوق لأن ذلك سوف يؤدي ببساطة إلى قيام مجتمعات قوية وبالتالي دول فاعلة وحاسمة تلعب أدوارا قيادية في صراعات المجتمع الدولي. لكن جاءت تلك الثورات لتوقف الزمن القديم عن استكمال طريقه المرسوم ولتبدأ زمنا جديدا يحقق أمانيها التي حلمت طويلا بها خاصة أن ذاكرتها سواء القريبة أو البعيدة تؤكد أن هذه القيم ليست غريبة عنها بل هي جزء من مكوناتها الدينية والثقافية. فالدين الإسلامي الذي يعد دين الأغلبية الساحقة من الشعوب العربية وأساس الثقافة السائدة لديها، أقام دولته التي استمرت عقودا طويلة على أساس هذه القيم. ويدعو بصورة واضحة لا لبس فيها إلى حماية وتطبيق هذه القيم ليس فقط عبر المجال السياسي الذي يشمل علاقة الفرد بتلك الدولة، بل أيضا عبر المجال التعبدي حينما قامت كل فرائضه على أساس تلك القيم. ولعل فريضة الصوم هي من أكثر الفرائض التي تشتمل على هذه القيم. فشهر رمضان الذي فرض فيه الصوم يعد بمثابة ثورة سنوية متجددة في شتى المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. سياسيا: هناك قضية صناعة الحياة. حيث تقوم الثورات من أجل إعادة بعث الشعوب التي أوشكت على الموت تماما كما كانت حال الشعب المصري قبل ثورة يناير المجيدة التي جاءت في لحظة فارقة من حياة هذا الشعب الذي كان بالفعل يوشك على الموت. وهكذا يفعل رمضان حيث يعمل على إحياء الأمة بشكل متجدد وسنوي في شتى المجالات خاصة المجال السياسي الذي يقود بقية مجالات الحياة.. وربما من الأفضل أن نتذكر أن كافة الانتصارات العسكرية الكبرى في تاريخ العالم الإسلامي، والتي غيرت مجرى التاريخ، وقعت في رمضان. ويخبرنا التاريخ أن تلك الحروب أدت إلى تحقيق الإحياء الشامل للمجتمع كما حدث في موقعة بدر وحطين وعين جالوت. وفي العصر الحديث هناك مثال حرب أكتوبر التي خاضها الجيش المصري ضد قوات الاحتلال الصهيونية. اقتصاديا: يحمل رمضان وطاعة الصيام قيما اقتصادية متعددة أبرزها التكافل الاجتماعي الذي يساعد على القضاء على مشكلات كبرى في المجتمع إذا ما تمت الاستفادة منها بشكل جيد، مثل مشكلة الفقر. كما حدث أيام الخليفة عمر بن عبد العزيز الذي استطاع بفضل هذه القيمة أن يقضي على مشكلة الفقر تماما حتى لدى غير المسلمين في الدولة الإسلامية. قيمة التكافل الاجتماعي كانت إحدى القيم الكبرى لثورة يناير التي رفعت شعار: خبز – حرية – عدالة اجتماعية. ويشير الخبز إلى مشكلة الفقر كما تشير العدالة الاجتماعية إلى مشكلة التفاوت الطبقي. وكلتا المشكلتين تجدان حلهما في قيم رمضان الثورية. اجتماعيا: يسعى رمضان إلى استعادة أخلاق المجتمع الحميدة حيث يدعو إلى الصيام ليس فقط عن الطعام والشراب بل يدعو إلى صيام الجوارح عن كل ما يؤذي أخلاق المجتمع. ولعل هذا يشترك مع ما فعلته ثورة يناير التي استطاعت استعادة أخلاق المجتمع المصري والتي ظهرت جلية في ميدان التحرير الذي تحول إلى المدينة الفاضلة التي حلم بها الفلاسفة والشعراء. هناك أيضا قيمة العمل الجماعي أو روح الجماعة أو الوحدة التي إذا تحققت استطاعت تحقيق نهضة حقيقية كما حدث في الثورة المصرية. فحينما تحقق العمل الجماعي، الذي ظهر جليا مع جمعة الغضب 28 يناير، نجحت الثورة. وهي قيمة كبرى أيضا في رمضان، حرص عليها المشرع مثل صلاة الجماعة في الفروض وفي التراويح وفي الإفطارات الجماعية للأسرة الواحدة ولأسرات متعددة. كذلك قيمة التسامح التي تتعاظم في هذا الشهر وهي من قيم البناء الكبرى التي شددت عليها الثورة المصرية في مواجهة كل ما ظلم المتظاهرين واعتدى عليهم، حيث لم تلجأ إلى فكرة الانتقام، بل لجأت إلى فكرة العقاب القانوني لمن يثبت في حقه تنفيذ هذا الاعتداء، في إطار دولة القانون التي قامت من أجلها الثورة. هكذا نرى ثورة رمضان المتجددة دائما الداعية لكل قيم العدل والحرية وكافة حقوق الإنسان التي نادى بها الدين الإسلامي العظيم الذي وضع أول خارطة طريق للسمو والارتقاء بأخلاق البشر.. تتفاعل وتتكامل مع ثورة يناير وكل ثورات الحرية والكرامة التي تنتشر في العديد من الدول العربية.