14 سبتمبر 2025
تسجيلمتوالية الدم باتت مستعصية على التوقف في وطننا العربي، رغم حضور روحانيات شهر رمضان الكريم والتي من المفترض أن تدفع الجميع إلى الشعور بالحياء من الخالق الأعظم، لتجنب سفك الدماء التي أمر- سبحانه وتعالى – ألا تسفك إلا في الحق ومجاهدة العدو الخارجي الذي يغتصب الأوطان وينتهك الحقوق، لكن ما بالنا نحن العرب تركنا عدونا سادرا في غيه، متجبرا علينا، مستمتعا باغتصابه لأراضينا وممارسته القهر ضد شعوبنا، وأخذنا نتقاتل فيما بيننا، ولا نغادر فرصة لقتل أو قطع رؤوس أشقائنا، ومحاولة فرض الهيمنة على أبناء الوطن الواحد أو السعي إلى تمزيق هذا الوطن على أسس عرقية أو طائفية أو مذهبية، من دفع الأمور إلى هذا النحو المريع؟ الذي ينطوي على مخاطر بالغة، ليس على الدولة الوطنية والتي يكاد بعضها أن يبلغ حد الدولة الفاشلة، أي غير القادرة على أداء مهامها ولعب الأدوار المطلوبة منها من فرط حالة السيولة التي أصابت تماسك نسيجها الوطني وإنما يمتد إلى مجمل ما بات يطلق عليه الأمن القومي العربي المهدد في صميم وجوده وزمنه الآتي، وأخشى ما أخشاه أنه في ظل استمرار متوالية الدم وما ينتج عنها من حالات احتقان وانقسام وتفكك نفسي، قبل أن يكون عضويا، أن يدخل إلى نفق مظلم لا يمكننا مغادرته إلا بمعجزة إلهية،لقد تفجرت ثورات الربيع العربي وهي كانت من الضرورة بمكان منذ ما يزيد على أربع سنوات، وكان المأمول أن تدخل الأوطان التي اندلعت فيها زمنا جديدا عناوينه، بناء دولة جديدة على أسس الديمقراطية والمساواة والمواطنة والتعددية السياسية والعدالة والكرامة الإنسانية، بيد أنه سرعان ما أصاب العطب هذه الأهداف وتعطلت مسارات الثورات، ودخل أغلب دول الربيع نفق الدم المعتم والذي تجاوز ضحاياه مئات الألوف من القتلى والجرحى، والملايين من اللاجئين والنازحين ، وتصاعدت في الوقت ذاته مصادر التهديد الخارجي استغلالا لحالة السيولة السياسية والأمنية بل والاقتصادية، مما قاد بالضرورة إلى تفاقم الأوضاع نحو المزيد من السوء، فعوضا عن تحقيق تفاهمات وطنية يتطلب الأمر الاستعانة بأطراف إقليمية أو خارجية لحسم الكثير من الملابسات والإشكاليات القائمة، والتي من دونها يتعطل أي حل أو أي تفاهم تتوافق عليه القوى الوطنية. ومع ذلك، فإنني لست ممن ينحون باللائمة على العامل الخارجي فقط، رغم أهميته في حسابات التعاطي السياسي مع الأزمات العربية الغارقة في الوقت الراهن في مستنقع متوالية الدم، فالأطراف الداخلية هي الأساس والتي تمارس معول الهدم نتيجة قناعات طائفية ومذهبية وعرقية أخذت تتلبسها بعد ثورات الربيع العربي وبعضها رأى في هذه الثورات مجالا حيويا للتنفيس عما ترى أنه قهر يمارس ضدها من الدولة المركزية أو ما تظنه هيمنة من طائفة أو فئة، فسارع بعضها إلى محاولة فرض نفسه كرقم في المعادلة الوطنية وذلك ليس عيبا في حد ذاته وإنما العيب يكمن في الاستقواء بالخارج وفتح طريق له للانخراط في معادلات الداخل، الأمر الذي يفضي إلى المزيد من سفك الدماء وأنموذج اليمن وسوريا والعراق واضح في هذا السياق بلا أي لبس أو غموض وتلك معضلة كبرى تتطلب يقظة ضمير وطني وإدراكا أن أي محاولة لاستعادة حقوق تاريخية أو طائفية أو مذهبية لن يكتب لها النجاح إلا عبر التوافق الوطني والحوار السياسي، فيما بين الفرقاء وليس عبر الاستعانة بعناصر خارجية هي لا تهمها مصلحة هذه الفئة أو تلك بقدر ما يحقق لها مصالحها في استعادة أو خلق نفوذ أو هيمنة إقليمية لها في الوطن العربي، وأسهم ذلك من دون شك في دفع أقطار عربية عدة إلى الدخول في حالة الحرب الأهلية، التي إن لم تنتبه أطرافها إلى الإسراع بوأد جذوتها ستقود الجميع إلى الهلاك، حيث لن يكون هناك وطن أو ثروات أو مقدرات أو حتى شعب للهيمنة عليه، بل رماد وبقايا حرائق ودخان، وعندئذ فليبتهج الجميع، لأن الأطراف الخارجية سيكون السبيل مفتوحا أمامها للسيطرة على هذا الوطن والشعب ومقدراته وثوراته.وثمة عامل فرض نفسه على متوالية الدم في الوطن العربي، يتمثل في الظهور القوى للتنظيمات الإرهابية، والتي اتسع نطاق وجودها وتأثيرها لتتجاوز حدود الدولة الواحدة ولتمتد إلى بقية الإقليم العربي وتصل أعدادها حسب تقديرات الخبراء إلى عشرة ولكن تنظيم داعش يتصدرها حضورا طاغيا وقدرة على التمدد وتوجيه ضربات موجعة مما دفعه في غضون عام واحد منذ يونيو 2014 إلى السيطرة على أكثر من نصف مساحة سوريا وثلث مساحة العراق وأخذ يظهر عينه الحمراء في كل من ليبيا ومصر ولبنان بدرجة من الحدة، وإن كانت محاولاته لتحقيق اختراق جوهري في دولة مثل مصر تبوء بالفشل، ومع ذلك لا يمكن التقليل من مخاطره، وهو ما تجلى في محاولته قبل أيام استعراض قوته في شمال سيناء من خلال العملية الهجومية على مدينة الشيخ زويد، والتي كان يستهدف من ورائها رفع علم داعش عليها وتحريرها تمهيدا لإعلان حقيقي لما يطلق عليه ولاية سيناء، ولكن جسارة الجيش المصري تمكنت بعد ساعات قلائل يوم الأربعاء الفائت، من إجهاض المحاولة رغم قسوة المواجهات التي خاضها جنودها وضباطه.والسؤال الملح هل بالإمكان وقف متوالية سفك الدم؟ بصراحة الأمر يبدو من الصعوبة بمكان، فالملاحظ أن هناك حالة من التراخي الرسمي العربي في التعاطي مع هذه المتوالية، والأمور تمضي والدماء تراق كل يوم، بل كل ساعة ودقيقة، والحركة العربية مصابة بقدر من الفتور إلا من غليان البيانات المستنكرة والمنددة، مثلما حدث مؤخرا مع الهجمات الإرهابية التي تعرضت لها كل من الكويت وتونس ومصر وهو أمر يبعث على القلق ويستوجب استعادة للفعل القومي القادر على بلورة تصور ما لوقف هذه المتوالية، ليس عبر صيغة تشكيل قوة عربية مشتركة، والتي ما زالت مطروحة للنقاش في أروقة النخب السياسية والعسكرية العربية فحسب، وإنما عبر خطوات عديدة تضمنتها العديد من الوثائق والدراسات التي قدمتها المراكز البحثية العربية، وفي مقدمتها بناء نسق إستراتيجي شامل للمواجهة لا ينهض على الأساليب العسكرية والأمنية فقط، وإنما يمتد إلى مجالات شتى تحتاج إلى تغيير في البني الفكرية والأطر التنفيذية وفي أدوات التنمية المعمول بها في أغلب دولنا العربية، وتقوم على احتكار فئة لمعادلة السلطة والثروة وقمع الاستبداد، الذي أخذ أشكالا مختلفة بعد ثورات الربيع العربي. إن مقومات محاربة متوالية سفك الدم قوية لكنها في حاجة إلى من يستنهضها ويقيلها من عثرتها ويدفعها لمغادرة كبوتها، لأن ما يحدث في المرحلة الراهنة ملهاة كبيرة ندفع كلفتها من وجود الأمة كلها.