15 سبتمبر 2025

تسجيل

الكبر جاهلية 1

06 يوليو 2014

لا يزال بعض الناس في زمننا هذا، ممن ينتسبون إلى الإسلام، ويعُدّون أنفسهم من المسلمين، يعيشون في جاهلية سحيقة، شديدة البعد عما جاء به الدين الحنيف، من أخلاقٍ وتعاليمَ وقيم، حالهم في هذه الجاهلية، لا تفضل مطلقاً عن حال الجاهلية الأولى، بل هي تشبه تماماً ما كان عليه البشر قبل سطوع نور الإسلام، في ظلمات النفوس حالكة السواد، فهداها إلى سواء السبيل، والصراط المستقيم، الدال والمرشد إلى الخلق القويم، الذي تلقى به في الدارين رَوْح النعيم.بيد أنها ليست جاهلية معتقداتٍ وعبادات، وإنما جاهلية معاملاتٍ وأخلاقيات، وهذه إشكالية عظيمة، فإن من مقاصد البعثة المحمدية، إتمام المكارم الأخلاقية في النفس البشرية، لتزكو وترتقي عن كل دنيّة، تحطها وتهوي بها إلى حضيض الحيوانية، تُصوّر تلك الجاهلية، في جهالاتٍ ورذائلَ وأباطيلَ وأمراضٍ، استقرت في عقولٍ غير سوية، وحلت في نفوس غير زكية.وأظهر مظاهر هذه الجاهلية في النفوس، (التكبر) وما يعنيه من زهْوٍ وخُيلاء واستعلاء، تحمل جميعها المتكبر على استعظام نفسه، ورؤيتها أنها خيرٌ من غيرها، وكأنما خلق من أصل شيءٍ غير ما خلق منه سائر البشر، فهو لهذا يرى لنفسه عليهم مزية وفضلاً وفخراً، وقد يدفعه الحمق والجهل، على أن يتفوه بهذا فيقول: أصلي وأصلي... أو غير ذلك، أنا كَيْت وكيت... ويحك يا من تقول هذا أو نحوه، بلفظك أو في نفسك، ألا تعلم أن كل البشر لآدم وآدم من تراب! قال شوقي:لا يقولنّ امرؤٌ أصلي فما أصله مسكٌ وأصل الناس طينُولكن ما ظنك فيمن نفسه يعبث بها النسيان، ويفسد فيها الشيطان، ما تعاقب عليها الجديدان، ما لم يعصِمْها الرحمن، قال إيليا أبو ماضي:نسي الطينُ ساعةً أنه طينٌ حقيرٌ فصار تيهاً وعربدْوكسى الخزُّ جسمَه فتباهى وحوى المالَ كيسُهُ فتمردْالبيت الثاني يحكي التيه والبطر الذي تجلبه كثرة وزيادة النعم على أصحابها، فتصيبهم بشدة الترف والمرح، حتى ينسيهم الشيطان أنفسهم، نعوذ بالله من طغيان النعمة.ونحن حين اعتبرنا الكبر جاهلية، فقد جاء من كلام رسول الله عليه الصلاة والسلام، ما يؤكد هذا، فيما روي عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه، أنه قال:(إني كنت ساببت رجلاً وكانت أمه أعجمية، فعيرته بأمه فشكاني إلى رسول الله، فقال: يا أبا ذر، إنك امرؤٌ فيك جاهلية)، فكان أبو ذر رضي الله عنه، بعد ذلك يُرى عليه بردٌ أو حُلةٌ، وعلى غلامه بردٌ أو حلة مثلها، طرداً لاستعلاء الكبر، وطلباً لمساواة التواضع.الحقيقة في الكبر أنه آفةٌ عظمى، وعلة كبرى، يذهب بالدين والخلق معاً، إذ فيه تجرؤٌ على الله، الذي جعل صفة الكبرياء له وحده، تفرّد بها ولا تنبغي إلا له سبحانه، فقال في الحديث القدسي، مبيناً الوعيد الشديد على الكبر:(الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحداً منهما، قذفته في النار)، وفيه استطالة على خلق الله، فالمتكبر لا يرى من هم دونه، أو من يظنهم هو دونه توهماً، إلا بنظرة احتقارٍ وازدراء، أو هو في الواقع لا ينظر إليهم، لكونه مصعّراً خده، غير مبالٍ بهم، ولعمري كيف يتصور ممن هذا شأنه، أن يكون له خلق كريم، وتعامل حسن! لذلك قال عليه الصلاة والسلام:(لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر)، يدلك هذا الحديث، على فظاعة وشناعة رذيلة الكبر الشديدة، فالنبي عليه الصلاة والسلام، لم يقل: لا يدخل الجنة متكبرٌ، بل قال:(من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر)، حسبك زِنة ذرةٍ واحدة؛ لأن الأمور لا تقاس بمقاديرها، ولا تحسب بأحجامها، ولكن بتأثيراتها وتبعاتها وعواقبها، فإن ذرةَ كبرٍ واحدة في نفسٍ، تفسد فيها كل فضيلة أخلاقية، يجب أن تكون في المؤمن، وتمحو من قلبه الرحمة الإنسانية، التي لا يكون مؤمناً إلا بها، وكأنما هذه الذرة الوحيدة تنشطر إلى جزيئاتٍ تنتشر في جوانب وحنايا النفس، فيستشري فيها داء الكبر الوبيل، فلا يدع فيها شيئاً حسناً حميداً، إلا أتى عليه فجعله حصيداً خامداً.