15 سبتمبر 2025

تسجيل

المسافة بين مرسي وناصر

06 مايو 2013

اجتاحني قدر من الارتياح عندما أعلن الرئيس المصري محمد مرسي أنه سيكمل ما بدأه الزعيم الراحل جمال عبد الناصر خلال زيارته يوم الثلاثاء المنصرم لمجمع الحديد والصلب بحلوان والذي شكل واحدا من أهم تجليات المشروع التصنيعي في حقبة الستينيات التي شهدت الانطلاقة الحقيقية للمشروع الوطني للزعيم الراحل. وكان هذا القدر من الارتياح قد شعرت به عندما أشار الرئيس مرسي للدور النوعي الذي لعبه عبد الناصر في حركة عدم الانحياز في خطابه أمام قمتها التي عقدت بطهران قبل بضعة أشهر. وإن لم تخني الذاكرة فإن مرسي منذ انتخابه رئيسا لمصر في نهايات يونيو الماضي لم يشر لعبد الناصر إلا في هاتين المرتين والمفارقة أنهما تعكسان بعضا من توجهاته سواء في الداخل – التصنيع – أو في الخارج – الحياد الإيجابي واستقلالية القرار الوطني بعيدا عن الارتباط بأي من المعسكرين السائدين في النظام العالمي خلال حقبتي الخمسينيات والستينيات من القرن الفائت ورغم ذلك أنظر لهاتين الإشارتين من رئيس ينتمي لجماعة الإخوان المسلمين باعتبارهما تطورا إيجابيا في المفهوم الذي يتعامل به بعض رموزها مع الزعيم الراحل ويصب في خانة التقدير لمنجز عملي واضح لثورة الثالث والعشرين من يوليو 1952 خاصة أن بعض هؤلاء الرموز لايفتأون يتطاولون على عبد الناصر ويصنفونه دوما في خانة الخصم التاريخي ومن ثم يتعين الثأر منه ومن تجربته ومن رمزيته ومنجزاته والتحولات الإستراتيجية التي لم يدخلها في مصر فحسب وإنما على الإقليم والمحيط القومي لها باعتراف المنصفين من المؤرخين ودارسي العلوم السياسية بل ومن بعض الأجانب. لقد تابعت بعضا من تصريحات الدكتور عصام العريان وهو قيادي إخواني من طراز رفيع في تكوينه السياسي والفكري وامتلاكه مساحة واسعة من الاستنارة والانفتاح على المدارس السياسية والفكرية الأخرى على مدى الأشهر المنصرمة فرصدت إصرارا على تشويه الزعيم الراحل وتحميله مسؤولية الكثير من الكوارث واتهامه بقتل آلاف المصريين فضلا عن فشل مشروعه الفكري والسياسي وغير ذلك الكثير وهو ما جعلني أتساءل هل يغادر الدكتور عصام خانة الحاضر ليشعل معارك وهمية مع الماضي؟ وما المبرر لهذه المعارك هل هو الرغبة في الانتقام وتصفية حسابات مع تجربة وطنية قادها عبد الناصر ورفاقه وسط معطيات محلية وإقليمية ودولية مغايرة لما هو سائد حاليا؟ صحيح ثمة تناقضات بدت واضحة بين مشروع عبد الناصر ومشروع جماعة "الإخوان المسلمون" في أعقاب تفجر ثورة الثالث والعشرين من يوليو 1952 واتخذت في أعقابها إجراءات متشددة وعنيفة من الحكم الناصري ضد قيادات وكوادر الجماعة وهو ما دفع الكثير من المنتمين للتجربة لانتقادها ولكن دون شك كانت هناك أخطاء ارتكبت في المقابل من قبل الجماعة التي سعت إلى إزاحة عبد الناصر ورفاقه عبر وسائل وصلت إلى حد ممارسة التصفيات الجسدية والاستعداد تنظيميا للانقضاض على الحكم الوليد ومع ذلك فإن المرء لا يمكنه أن يبرر رد الفعل العنيف من أجهزة أمن عبد الناصر ضد الجماعة. وألفت في هذا السياق إلى أن أطرافا من الجانبين وبالذات من فئة الشباب داخل مصر بدأوا محاولات في ثمانينيات القرن الفائت للبحث في مقاربة تتجاوز تداعيات الصراع الناصري الإخواني وأظن أن ذلك مهد فيما بعد سواء عن قصد أو غير قصد للمؤتمر القومي الإسلامي الذي انبثق عن مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت في ثمانينات وتسعينيات القرن الماضي باجتهاد من مؤسسه الدكتور خيرالدين حسيب والذي قاد محاولات جادة لتجديد المشروع العربي الحضاري ورفده بالخيار الديمقراطي والإيمان بحق كافة القوى الوطنية والدينية والفكرية في المشاركة في العملية السياسية وفي تقديري فإن المؤتمر القومي الإسلامي - والذي عقد عدة دورات بالعواصم العربية قام كاتب هذه السطور في تغطية بعضها صحافيا واللقاء مع المفكرين والسياسيين من الطرفين المشاركين فيها بما في ذلك الدكتور عصام العريان والذي التقيته في فاس في المغرب وفي الدوحة - وضع الأسس الصحيحة لاقتراب التيارين الإسلامي والقومي باعتبارها هي القادرة على الخروج بالأمة من أزماتها ومواجهة خصومها وأعدائها وبناء المشروع الحضاري العربي بمحتواه الإسلامي. ولكن ما إن وصلت الجماعة وذراعها السياسي إلى الحكم في مصر حتى تجاهل بعض رموزها وفي المقدمة منهم الدكتور عصام العريان هذه المقاربة مع التيار القومي رغم التحالف الضمني الذي ظهر خلال ثورة الخامس والعشرين من يناير بل وخلال أول انتخابات برلمانية والتي ضمت قوائمها المهمة مرشحين من كلا التيارين. وقد سعى الدكتور مرسي خاصة في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية في يونيو الماضي خاصة في ظل المنافسة الشرسة من الفريق أحمد شفيق إلى كسب ود الناصريين وعقد مع رموزهم إلى جانب رموز وطنية أخرى اللقاء المعروف بأحد فنادق القاهرة وتفتق عن توافق يقضي بأنه رئيس لكل المصريين وليس لتيار أو لجماعة بعينها والتأكيد على الشراكة الوطنية والمشروع الوطني الجامع الذي يعبر عن أهداف الثورة وعن جميع أطياف ومكونات المجتمع المصري. غير أنه سرعان ما تم القفز على هذا التوافق وجرت في النهر مياه كثيرة منذ تولى مرسي الرئاسة على نحو كرس لهيمنة الجماعة وحزبها وإقصاء القوى الوطنية الأخرى فضلا عن القيام بممارسات سياسية خلقت مسافة شديدة الاتساع مع هذه القوى. وأحسب أن الرئيس مرسي بإشارته الأخيرة لعبد الناصر في إحدى القلاع الصناعية التي أسسها مجمع الحديد والصلب بحلوان - وتأكيده على الدور المهم للقطاع العام وانتهاء زمن خصصته والإبقاء عليه إلى جانب القطاع الخاص كجناحين للتنمية يمثل إعادة اعتبار مهمة لمشروع عبد الناصر ولو كان صادقا في هذا التوجه فإنه بوسعه أن يحقق مكاسب مهمة للجماعة وبالذات على صعيد استعادة المصداقية والشعبية التي تآكلت خلال الأشهر القليلة الماضية بيد أن ذلك يستوجب ليس مجرد طرح شعارات وإنما الاستفادة من المشروع الوطني لعبد الناصر خاصة في أبعاده التنموية وتوجهاته في السياسة الخارجية والبدء في التعامل بجدية مع مشكلات المصريين اليومية وتحقيق مطالبهم في المأكل والمسكن والعلاج والتعليم بطريقة كريمة وهو ما يمكن أن يعلي من قيمة وقامة الرئيس مرسي في التاريخ السياسي المصري الحديث فالمصريون عشقوا عبد الناصر لأنه انحاز إلى خياراتهم الاجتماعية وانطلق ليؤسس وطنا ينهض على العزة والكرامة والعدالة ونجح إلى حد بعيد في ذلك وهو ما دفع الخصوم في الداخل وفي الخارج لإجهاض هذا المشروع الذي ما زال ينطوي على قابلية للتحقق إن خلصت النفوس من نزعات الانتقام وتصفية الحسابات السطر الأخير: أبوء لك بعشقي فلاتسافري كوني في مداري