29 أكتوبر 2025
تسجيليقول الدكتور علي الوردي في كتابه أسطورة الأدب الرفيع: "إن المعرفة البشرية بوجه عام تجري في تطورها على خطوات متتابعة، كل خطوة منها تؤدي إلى ما يليها. ومن النادر أن يقفز فرد في إنماء المعرفة قفزة مفاجئة ليس لها تمهيد سابق". أ.هـ إن للمعرفة أدوات، من خلالها يُخلق الفكر في ذهن الإنسان، إذ انه من دونها قد يكون مستحيلًا أن يصل إلى درجة العلم الرفيع والتعليم العالي، وعلى ذلك ظهرت أصوات اختلفت في نوعية الأدوات سميت بالمدارس المعرفية أو نظريات التعلم التي تتصل وبشكل مباشر بالمدرسة السلوكية. ولعل اختلاف المدارس المعرفية يكمن في مصدر المعرفة ذاتها، "كالمادية التجريبية" التي لا تؤمن إلا بالحس والتجربة فقط، و"الصوفية" إذ تؤمن بأن العلم موجود داخل الإنسان ويجب عليه اكتشافه بالرياضة الروحية، حتى يصل إلى مرحلة تُشرق عليه شمس المعرفة الإلهية، وأخرى "إخبارية" وهي تُلغي أي طريق للمعرفة إلا ما جاء عن طريق الخبر والرواية، وأخيرًا عقلية وهي التي تؤمن بالوصول إلى الحق عن طريق العقل غير نافية لجميع المدارس التي سبق ذكرها. ولكن، إيمانٌ عميق يقول إن المعرفة حياة، بجميع مراحلها وظروفها وتوعكاتها وعافيتها، هي لا تسقط على الرأس ليغدو الشخص نابغة، هذا أمر مستحيل ولا يمت للعقلانية بصلة، هي أمور مرتبطة بعضها البعض، لا يمكن فصلها أو حتى تجزئتها، فكما يقول النابلسي "والعلم لا يعطيك بعضه إلا إذا أعطيته كلك، فإذا أعطيته بعضك لا يعطيك شيئًا". العلم "فكرة" في البداية، زوبعة تتكون في الرأس تسبب القلق والتململ ولعلها الإشكالية الأولى التي يواجهها "المثقف"، هاجس لا يهدأ يتعلق بشكل واضح في الرغبة في الاكتشاف، في الإحساس الملح المعنون بأن ثمة أمورا لا يعرفها، ويجب عليه معرفتها، إذا كان هو ينشد السكون والمصالحة مع النفس، يقول في ذلك المذهب الأفلاطوني من أن الأفكار كائنات أزلية انطبعت على النفس الإنسانية قبل اتصالها بالبدن، فجاءت تجربة الحياة موقظة لها، أو قد تتم تلك الأسبقية على أساس أن المعرفة موحى بها من الله. ثم إنه البحث، في كل ما يجلب المعلومة، ويغذي المساحة المتعطشة في الفكر، وهي مرحلة اكتشاف المعرفة بطريقة علمية، ولعلها رحلة تنوير بقصد الاستزادة، إذ يقول كونفوشيوس "ابحث عن المعرفة لأن المعرفة لا تبحث عنك". أما القراءة، فهي المرحلة الجوهرية، والوسيلة الأهم منذ الأزل وحتى الأبد، بها تتبلور الفكرة والبحث، وتتفتح المدارك المغلقة في الذهن، فهي فسحة للعقل، وتهذيب للروح، وتدريب للمنطق والحديث، ولعل من الخطأ الذي نقع فيه أن نختم بعض الكتب دون مرشد متمرس في ذات الحقل، إذ ثمة علوم لا تقوم إلا على معلم، وإلا فإنها تأتينا مغلوطة أو بشكل ناقص لا يليق بالشغف الذي تحويه عيون المعرفة في قلوبنا. فسيبويه وكتابه الشهير في النحو، وكان كتابًا غير عادي فيه من التدقيق والتبويب ما أثار دهشة الناس، درس على يد الخليل بن أحمد الفراهيدي إذ يقول الوردي بأنه الملهم الأول لسيبويه في وضع كتاب النحو، كما كان أرسطو صاحب كتاب المنطق المثير للإعجاب تلميذًا لأرسطو. العلوم والمعارف، حياة مستقلة، تقوم مدنها على النور الساطع من الأبجدية والمعلومات، إن العتمة لا تعرفها هذه المدن، فكل من عليها وضاء، تشع فيها العقول قبل القلوب، والمنطق قبل الكلم واللسان، هي الجمال المطلق، والمساحة التي لا تعرف القُبح والجهل، إننا نريد أن نرحل إلى هناك، حيث الفردوس والنعيم، نحمل زادًا يقول "ربِ زدني علما".