31 أكتوبر 2025
تسجيلتمر العلاقات الباكستانية الأمريكية منذ فترة ليست بالقصيرة بدرجة من التوتر بسبب تراكم الأخطاء المترتبة على العمليات التي تقوم بها وكالة الاستخبارات الأمريكية داخل الأراضي الباكستانية سواء تلك المتعلقة بهجمات الطائرات من دون طيار ضد المسلحين المنتمين للقاعدة أو تلك المتعلقة بالعمليات الاستخبارية التي تتم داخل المدن الباكستانية دون حتى علم السلطات هناك إلى الدرجة التي لا تعلم فيها تلك السلطات أعداد رجال الاستخبارات الأمريكية أو ماذا يفعلون؟! وقد ترتب على هذه الاستباحة من قبل الاستخبارات الأمريكية نشأة صراع استخباري بين مديرية المخابرات الباكستانية ووكالة الاستخبارات الأمريكية كان من نتائجه وقوع حوادث كادت تؤدي لاشتعال أزمات دبلوماسية كبرى بين واشنطن وإسلام آباد. كان آخر هذه الحوادث قيام أحد رجال الاستخبارات الأمريكية بقتل رجلي استخبارات باكستانيين، في مدينة لاهور في نهاية شهر يناير الماضي من داخل سيارته، التي خرج منها وبدأ يسجل المشهد بكاميرا الفيديو الخاصة به، وقبل أن يلوذ بالفرار من موقع الحادث أوقفت امرأة سيارتها أمام سيارته وحاصرته فلم يتمكن من الفرار، واجتمع الناس حوله وأحاطوه من كل جانب. وقد أثارت الحادثة ضجة كبرى بعد أن تم الكشف عن شخصية القاتل الذي ظن الشعب الباكستاني أنه مجرد دبلوماسي أمريكي، خاصة بعد أن حاولت الإدارة الأمريكية بكل ما في وسعها إطلاق سراحه من قبضة السلطات الباكستانية وظلت تردد أنه دبلوماسي وساندها الإعلام الأمريكي في هذا الأمر. ولكن عندما مر شهر كامل على اعتقاله أخذت تتسرب معلومات من مصادر أجنبية كشفت أن القاتل الأمريكي لم يكن دبلوماسيًا وإنما كان عميلا لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية. وليس هذا فحسب، بل هو رئيس مكتب وكالة المخابرات المركزية الأمريكية في باكستان. واسمه الحركي ريموند ديفيس، أما اسمه الحقيقي هو مايكل جورج فرناندس. وقد مارست واشنطن ضغوطا هائلة على حكومة إسلام أباد من أجل إطلاق سراح فرناندس. ورغم امتناع حكومة إسلام أباد عن الاستجابة للضغوط الأمريكية في البداية، إلا أن تزايد هذه الضغوط أدى في النهاية إلى وضع مخرج لحفظ ماء وجه الحكومتين عبر الاتفاق على دفع فدية لأهل القتيلين مقابل الإفراج عن القاتل. وقد كشفت هذه الواقعة الكثير من الصراع الاستخباري الدائر على الأراضي الباكستانية، بعد توسع مساحة عمل فرق الاستخبارات الأمريكية هناك كثيرا خاصة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 وإجبار باكستان على المشاركة في الحرب الكونية التي تشنها واشنطن ضد الحركات المتطرفة. وبعد هذه الواقعة تزايدت الرغبة الباكستانية في تقليص الأدوار التي تلعبها الاستخبارات الأمريكية في المدن الباكستانية، خاصة بعد أن اكتشفت المخابرات الباكستانية أن الفريق الذي كان يقوده فرناندس كان يعمل على نقل الأسلحة البيولوجية والكيميائية إلى عناصر تنظيم القاعدة في باكستان لتقوم هذه العناصر بشن هجوم مماثل لهجمات 9/11 داخل أمريكا ليصبح الطريق ممهدًا لأمريكا لشن عملياتها العسكرية العديدة في دول مختلفة على رأسها باكستان. وتساعد هذه العملية العسكرية الأمريكية المخططة ضد باكستان على استهداف مناطق معينة ونقل الأسلحة النووية الباكستانية علاوة على المواد النووية إلى أمريكا، وهو ما يعني أن المخطط الأمريكي كان يعني ليس فقط احتلال القوات الأمريكية لأراض باكستانية ولكن أيضا محاولة القضاء على عنصر القوة الرئيسية لباكستان والذي يحفظ لها وجودها أمام عدوتها اللدود الهند، وهو سلاحها النووي. في مواجهة هذا المخطط العدواني، تحركت القيادة الباكستانية لمواجهته ووضع حد له، فبدأت في التباحث مع المسؤولين الأمريكيين حول ضرورة تخفيض عدد أفراد الاستخبارات الأمريكية وعملياتهم في المدن الباكستانية مع وضع شرط التعاون الكامل مع الاستخبارات الباكستانية لمعرفة أهداف وخطوات هذه العمليات. وقد أشار موقع صحيفة "نيويورك تايمز" في الثاني عشر من أبريل الجاري إلى هذه المباحثات، مشيراً عن مسؤول أمريكي مشارك في هذه المباحثات إلى أنه طُلب من نحو 335 ضابطا في الاستخبارات الأمريكية، ومتعاقدين مع الوكالة وأفراد من القوات الخاصة مغادرة إسلام أباد. وأكد الموقع أن "الفكرة الأساسية لهذه المباحثات أن الجيش الباكستاني يريد أن توقف "سي آي إيه" العمليات "أحادية الجانب" داخل أراضيها - والمقصود منها غارات طائرات التجسس بالإضافة إلى العمليات البرية السرية - التي لم تحصل على تصريح مسبق محدد". وفي شهر فبراير الماضي، كان رئيس الوزراء الباكستاني سيد يوسف رضا جيلاني قد بدأ يشير إلى هذا الأمر بصورة علنية حينما وجه انتقادات مباشرة إلى سياسة واشنطن في منطقة جنوب آسيا حيث دعا الحكومة الأمريكية إلى ضمان إتباع نهج متوازن تجاه منطقة جنوب آسيا وتبني سياسة غير تمييزية نحو باكستان. من المؤكد أن التوتر المتصاعد الذي تعيشه العلاقات الأمريكية الباكستانية يعود إلى أمرين أساسين، أولهما هو التنازلات الكبيرة التي قدمتها إسلام آباد إلى واشنطن في سياق الحرب الأمريكية على الإرهاب. وهي التنازلات التي أغرت واشنطن للتوغل أكثر على حساب السيادة الباكستانية دون حساب لمصالح البلاد الإستراتيجية. والأمر الثاني يتعلق بتغير الظروف الدولية التي لم تعد تقبل بعمليات الحرب الأمريكية ضد ما تسميه الإرهاب دون والتي لا تتفق وقواعد القانون الدولي المنظمة لمثل هذه العمليات. هذان الأمران دفعا إسلام أباد إلى محاولة تغيير قواعد التحالف الذي حكم علاقتها مع واشنطن بما يحقق مصالح البلاد العليا ويمنع واشنطن من انتهاك السيادة الباكستانية مجددا، وإرسال رسالة واضحة للإدارة الأمريكية مفادها أن هناك خطوطا حمراء يجب أن تقف عندها إذا أرادت أن يستمر الدور الذي تلعبه إسلام أباد في حربها على الإرهاب التي لن تستطيع أن تكسبها من دونها، وألا تتحول العلاقات التحالفية بينهما إلى صدام، قد يكون مسلحا من أجل الحفاظ على كيان وهوية الدولة الباكستانية.