11 سبتمبر 2025

تسجيل

لقب لا أعرف جدواه وقيمته

06 أبريل 2021

لم أكن أعرف أنني "مثقف" إلا بعد ان تجاوزت الثلاثين، وكان ذلك بشهادة من آخرين سمعت منهم كلاما من نوع "أنت كمثقف عليك أن..."، أو "نحن كمثقفين يجب ان نقوم بكذا وكذا..."، وبعد ان ترددت هذه العبارات مرارا على ألسنة أشخاص جالستهم، أدركت انني انتميت الى قبيلة المثقفين، ثم أدركت لاحقا ان هذا الانتماء ليس مدعاة للتفاخر والتباهي، لأن تلك القبيلة ملاذ لمن يدعون عراقة النسب الثقافي، وللمنبوذين والمستهبلين، بالطبع ليس كل من انتسب الى هذه القبيلة من هذه الشاكلة ففيها "عيال قبيلة" أصليون ومتمكنون من أدواتهم، خاصة بعد تخفيف شروط الانتماء اليها، فقبل نحو ربع قرن تقريبا، كان الشرط الأساسي للانتماء الى قبيلة المثقفين هو الحصول على الشهادة الجامعية، وشيئا فشيئا اكتشف الناس ان هناك من يستحقون عضوية القبيلة رغم انهم لا يحملون شهادات "مبروزة"، أي ان هناك من هم مؤهلون لحمل لقب مثقف عن جدارة دون سند من مؤهل أكاديمي، ثم صارت شروط العضوية أكثر مرونة بعد ان صارت بعض الجامعات تنتج أميين بمرتبة الشرف، بينما برز أناس لم يكن حظهم من التعليم النظامي كبيرا، ولكنهم علموا وثقفوا أنفسهم بالمثابرة والمكابدة وطلب المعارف في مظانها، فكان حظ هذه الفئة من الثقافة عظيما لأنهم أفلتوا من الببغاوية التي تغرسها بعض المناهج المدرسية! وبصراحة فإنني لا أعرف كيف ومتى يحق للإنسان ان ينال لقب مثقف، ولا ما هي الجهة المخولة بمنح هذا اللقب الفخيم، (وتذكروا ان أول شخص في التاريخ فاز بدرجة الدكتوراه نالها من أشخاص لا يحملون ذلك اللقب، مما يعني أنهم كانوا أعلى شأنا من الناحية الأكاديمية من الشخص الذي فاز بها) وعلى كل حال فإذا اعتبرني البعض مثقفا ف" بارك الله فيهم"، ولكنني وبصفة عامة لم أعد أكترث بالانتماء القبلي بالمعنى العريض للعبارة، بل لم تكن مجالسة "المثقفين" تستهويني على نحو خاص، لأنني نشأت في بيئة كان معظم أفرادها من الأميين أو الذين نالوا قدرا بسيطا من التعليم ومع هذا لم تضعف صلتي بهم على مر السنين، ذلك لأنهم يتمتعون بأصالة لم أجدها عند "المثقفين"، ويحترمون الإنسان لكونه إنسانا وليس لأنه صاحب لقب او منصب أو ديوان شعر او كتاب، وهم يتكلمون على السجية وبعفوية فتخرج من أفواههم حكم السنين والتجارب، (ذات مرة استضاف التلفزيون السوداني الذي كنت أعمل به شاعرا شعبيا عجيب القدرات وكان يجيب على الأسئلة التي تطرح عليها ارتجالا شعرا، وبعدها سألني قريب له عن رأيي فيه: فقلت له إنه شخص مذهل يقول الشعر على السليقة، فغضب السائل مني لسببين: الأول انه اعتبر انني قلت ان قريبه الشاعر مذهل لأنه يعاني من "الذهول"، والثاني ان السليقة في العامية السودانية تعني الشوربة الخفيفة التي لا يستوجب إعدادها أي مهارة) وكنت في بداية حياتي العملية أتخذ من دكان ترزي أي خياط كان صديقا لي مقرا ثابتا في الأمسيات. نجلس أمام الدكان نتسامر الى ساعات متأخرة ثم ننصرف الى بيوتنا، وكان من بين أفراد شلة الدكان بائع ثلج (وهو بالمناسبة صاحب المحل الذي كتبت عنه مرارا وكان يحمل اسم "ثلاجة البشرية للثلج البارد")، وثلاثة من فنيي صناعة الأحذية الذين كانوا زملاء دراسة في المرحلة الثانوية ثم اختاروا التخصص في مجال الأحذية (أصبحوا اليوم من ملاك مصانع ومحلات بيع الأحذية ويلعبون بالفلوس)، وكان زملائي "المثقفون" يعجبون بل ويتضايقون لأنني أخالط أشخاصا "دون مستواي"، وكان ذلك يغضبني لأنهم كانوا يقصدون ان أصدقائي أولئك "دون مستواهم" هم، وخلال الترتيبات لزواجي كان اصدقائي المثقفون يجلسون معي لممارسة التنظير حول قضية فيتنام وسيرة غيفارا، بينما كان اصدقائي الذين كانوا "دون مستواهم" يتولون شراء مستلزمات حفل الزواج، وصنع أصدقائي الجزمجية لعروسي حذاء توارثته عشرات العرائس لجماله وإتقان صنعه، وأهداني صديقي الخياط عدة جلابيب (لأن العريس في السودان لابد ان يرتدي الجلابيب خلال طقوس معينة يتم خلالها طمره بالزيوت العطرية والحناء)، أما صاحب محل الثلج الذي لم يستمع الى نصائحنا بان اسم محله "ثلاجة البشرية للثلج البارد"، يطفش الزبائن لأنهم سيعتقدون أنه ثلاجة لحفظ الموتى، فقد تبرع بأطنان من الثلج للمدعوين الذين تناولوا العشاء على حسابي وأبادوا مدخراتي لسنتين خلال ساعتين!! [email protected]