28 أكتوبر 2025
تسجيلبوسعي القول. من خلال متابعتي لوقائع القمة العربية الأخيرة. التي عقدت بشرم الشيخ يومي السبت والأحد قبل الماضيين. أنها شكلت بداية لبناء نظام إقليمي عربي جديد. على نحو يدفعه نحو استعادة القدرة على الفعل. بعد أن كان يتسم خلال العقود الأربعة الأخيرة. تحديدا. بالطابع الإنشائي والانفعالي. إلى الحد الذي باتت معه الأمة توصف بأنها ظاهرة صوتية. أي لا تمتلك إمكانية المبادأة. والقيام بمبادرات باتجاه الآخر. أيا كان عدوا أم صديقا. فهي تتلقى دوما الأفعال ثم تقوم بممارسة الردود عليها. وفي الغالب. تكون هذه الردود مصبوغة بألوان باهتة. مما أفقدها تأثيرها ووهجها. الأمر الذي أخرجها من دائرة الهيبة. بينما برزت على الصعيد الإقليمي بالذات أطراف. بعضها متعادل في النسق الحضاري. وبعضها الآخر. وهذه هي المفارقة. أقل مما حققته الأمة من رصيد حضاري وتنموي. لكنه – أي هذه البعض الأخير – امتلك الإرادة السياسية والقدرة على الفعل دون حساب. إلا ما يتعلق بوجوده ومصالحه الوطنية. فتحرك في غير اتجاه لتحقيقها ممتلكا الأدوات والمهارات والإمكانات والمقومات. فانصهر في البوتقة الحضارية الراهنة. فصار جزءا من نسيجها. ومؤثرا في حركتها. وعندما تتساءل عن أمة العرب. تجدها في خانة بعيدة. حركتها تراوح مكانها. وتوهجها يفقد طزاجته.. فانشغلت دولها بخلافاتها وحروبها الداخلية. على أسس عرقية ومذهبية وطائفية. وثمة حكام في بعض أقطارها لم يراعوا مقتضيات شعوبها فأوغلوا استبدادا وقمعا وقطعا لأي نزوع نحو التقدم والديمقراطية والحرية والكرامة. مما دفع هذه الشعوب إلى الثورة منذ ما يزيد عن أربع سنوات. فتحركت المياه الراكدة. بيد أن ثمة من تلاعب بمسار بعض هذه الثورات فانحرفت عن أهدافها الحقيقية. أو بالأحرى دفعت دفعا إلى الانحراف. وتدفع شعوبا في كل من سوريا وليبيا واليمن. على وجه التحديد. كلفة مرتفعة من دمائها ومقدراتها انتظارا لمجيء المنقذ الغائب. والذي تترقبه الشعوب مع إطلالة كل صباح.كانت هذه ملامح المشهد العربي قبل الثامن والعشرين من مارس الماضي. بيد أنه مع انطلاق قمة شرم الشيخ وهي السادسة والعشرون في ترتيب انعقادها العادي. بدت في الأفق روح مغايرة. تنبئ بأن زمانا عربيا جديدا بدأ يرسم تجلياته. ويأخذ الأمة في اتجاه يتجاوز بعض نتوءات ما كان يجري خلال العقود القليلة المنصرمة. يدفع نحو تبني الفعل وامتلاك الإرادة السياسية ولو في حدها الأدنى. وإصدار القرارات المتجذرة في مفردات الواقع. قارئة معطيات المحيط الإقليمي والتأثير الدولي. وذلك اتكاء على الحقائق التالية: أولا: إن القادة العرب أقروا لأول مرة في تاريخ النظام الإقليمي العربي المعاصر والذي تشكل عقب الحرب العالمية الثانية. وتحديدا مع انطلاق الجامعة العربية في الثاني والعشرين من مارس 1945. أي منذ سبعين عاما تحركا باتجاه تفعيل معاهدة الدفاع العربي المشترك. من خلال الموافقة على مبدأ إنشاء قوة عربية مشتركة وهو تطور وصفه الدكتور نبيل العربي . الأمين العام للجامعة العربية- والذي وضع أساس هذه المقترح في دراسة مهمة قدمها لوزراء الخارجية العرب في اجتماعهم الطارئ في منتصف يناير الماضي - بأنه ميلاد الحلم المرتقب. وذلك يعني أن النظام الإقليمي العربي. بات على أعتاب امتلاك القوة التي تمكنه من تحقيق أهدافه. في فرض معادلة الأمن والاستقرار. اعتمادا على القدرات الذاتية وتحييد العوامل الخارجية إلى حد ما.ثانيا: إعلاء قيمة التضامن العربي مجددا. صحيح أن هذه القيمة كانت تتصدر جدول أعمال أي قمة عربية سابقة ’غير أن الجديد في قمة شرم الشيخ أن القادة تجاوزا مستوى التأكيد عليها من حيث القول أو الشعار إلى مستوى الفعل. فوفقا لإعلان شرم الشيخ. فإن النص جاء على لسان القادة كالتالي "نؤكد على التضامن العربي قولا وعملا في التعامل مع التطورات الراهنة التي تمر بها منطقتنا، وعلى الضرورة القصوى لصياغة مواقف عربية مشتركة في مواجهة كافة التحديات، ونجدد تأكيدنا على أن ما يجمع الدول العربية عند البحث عن إجابات على الأسئلة الرئيسية للقضايا المصيرية هو أكبر كثيرا مما يفرقها، ونثمن في هذا السياق الجهود العربية نحو توطيد العلاقات البينية وتنقية الأجواء"، والملاحظ أن ثمة مفردات وخطابا جديدا يتسم بالحيوية والصدقية. ولعل مشاركة الشيخ تميم بن حمد آل ثاني أمير قطر في القمة واستقبال الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي له بمطار شرم الشيخ الدولي والذي اتسم بالحميمية الحقيقية ثم اللقاء الثنائي بينهما. والذي خيب ظن بعض الدوائر التي كانت ترغب في استمرار التباينات بين القاهرة والدوحة هو المجسد الأول لطروحات هذه القمة باتجاه إعلاء قيمة التضامن قولا وعملا. والمأمول أن تتواصل جهود تنقية الأجواء العربية في المرحلة المقبلة حتى تتمكن الأمة من تحقيق انطلاقتها لبناء ما أسميته بالأفق المغاير بعد قمة شرم الشيخ.ثالثا: وضع القادة العرب أساسا قويا. للتعامل مع التحديات والأخطار الناجمة عن انتشار التنظيمات الإرهابية. والتي تشكل في المرحلة الراهنة واحدا من أهم المخاطر بعد أن باتت لا تهدد الدولة الوطنية فحسب. وإنما تهدد مجمل الأمن القومي العربي وذلك من خلال تبني إستراتيجية مواجهة شاملة. لا تنهض على البعد العسكري والأمني. ولكن من خلال توظيف كل الطاقات الفكرية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية التي تمتلكها الأمة. وهي كثيرة ومتعددة ومتنوعة. في حاجة فقط إلي الاستغلال الأمثل. وخطط تعد بصورة علمية لتوزيع الأعباء والأدوار. وفقا لقدرات كل دولة وما تمتلكه من ميزات نسبية مثلما تفعل منظومة الاتحاد الأوربي والتي تحقق من خلال ذلك. مكاسب متواصلة دفعتها إلى صدارة المشهد العالمي. رابعا: وضع أسس ومرتكزات هيكلية ضمن عملية إعادة صياغة النظام الإقليمي العربي وفي مقدمتها موافقة القادة النظام الأساسي المعدل لمجلس السلم والأمن العربي بعد أن تم تمرير فكرة إنشاء هذا المجلس قبل سنوات، ولكن من دون وجود على الأرض. وتكمن أهميته في تولي مسؤولية تدعيم السلم والأمن والاستقرار في الدول الأعضاء. مع مراعاة مبدأ عدم تدخل إحدى الدول الأعضاء في الشئون الداخلية لدولة عضو أخرى. بالإضافة إلى دعم وتشجيع أسس الديمقراطية والحكم الرشيد وسيادة القانون. وحماية حقوق الإنسان واحترام القانون الدولي الإنساني في إطار جهود الوقاية من النزاعات ومنعها وإدارتها وتسويتها. ولعل النقطة الأهم في هذا الصدد هو قيام المجلس باتخاذ الإجراءات الجماعية المناسبة إزاء أي اعتداء على دولة عربية أو تهديد بالاعتداء عليها، وكذلك ما إذا اعتدت أي دولة عربية أو هددت بالاعتداء على دولة عربية أخرى. مع مراعاة أحكام الميثاق وإحكام معاهدة الدفاع المشترك، وإرسال قوات حفظ سلام عربية إلى مناطق النزاع عندما تستدعي الحاجة إلى ذلك.خامسا: وإلحاقا بما سبق . فإن ثمة تعديلات مرتقبة في ميثاق الجامعة العربية الذي أقر في العام 1944. فقد قرر القادة منح اللجان الأربع التي شكلت بناء على قرار من قمة الكويت في مارس من العام 2014. لدراستها باستفاضة على مدى العامين الماضيين للانتهاء منها. في غضون فترة ثلاثة أشهر. وحسبما قال لي الدكتور نبيل العربي فإن من شأن هذه التعديلات أن تجعل من عملية إصدار القرارات العربية يسيرة وسهلة. فهي تطرح هيكلة واضحة للجامعة العربية، مع منح مختلف الأجهزة والهيئات التابعة لها إطارا تنظيميا محددا يضمن لها الاستقلالية، ويضع قواعد إجرائية واضحة تنظم العلاقة فيما بينها. كما تتضمن للمرة الأولى إضافة مجموعة من المبادئ بالغة الأهمية. تتعلق بتعزيز الديمقراطية والمشاركة الشعبية والشفافية. والحكم الرشيد وتأكيد قيم الانتماء والمواطنة كأساس للحقوق والواجبات، كما تتجه التعديلات إلى إضفاء البعد الشعبي على العمل العربي المشترك، من خلال تنمية علاقات التعاون والشراكة مع مؤسسات المجتمع المدني والقطاع الخاص، الأمر الذي يمثل خطوة محمودة في اتجاه تعزيز التعاون بين الجامعة العربية والمجتمع المدني العربي.